أعطاه مصر ثمنا لأسباب تافهة؟!

TT

إن صح كل ما جاء على لسان المؤرخين عن هارون الرشيد، فلا شك أنه رجل عابث وأن له صفات جحا، فالذي قيل عنه كثير جداً وكثير منه غير معقول وغير منطقي، ولكن من قال إن مثل هذا الطراز من الناس كان عاقلاً، وإنما هو يمضي الليل في لهو، يلعب بالفلوس وبعقول الشعراء والمغنيات والراقصات، وهو يبحث عن الذي يضحكه ويسليه.

ويأتي بالشعراء الذين ناموا على بابه يتنافسون ويتناحرون من أجل فلوسه ونفوذه، وكما يوزع عليهم الفلوس والجواري يوزع عليهم مملكته أيضاً، فهذا الشاعر أعطاه مالا وهذا قطعة أرض وهذا وهبه الملك على دولة من الدول، وكما يخلع هارون الرشيد ملابسه على الشعراء «مضحكي الخليفة» والمطربات والراقصات والملحنين، فإنه يهدي الجواري من كل لون وجنسية إلى من يرضى عنهم.

وقد بالغ المؤرخون في ليالي هارون الرشيد واختلط الواقع بالخيال، بل نحن لا نعرف إن كانت هذه الليالي التي رأينا صداها في «ألف ليلة» حقيقة أو خرافة، لا يهم، ولكنها متعة، وكثيراً ما تمنى القارئ أن يعايش هذه الليالي، فالحياة سهلة: أولها طرب وآخرها رقص أو أن الطرب ممتد والرقص أيضاً، والضحك والفرفشة لا أول لهما ولا آخر، ولا بد أن القارئ المصري يصيبه الغيظ عندما يعلم أن أحد الشعراء ألقى أبياتاً في حضرة هارون الرشيد فأعطاه مصر، أي جعله والياً عليها، أما الأبيات التي أنشدها فهي:

فأقسم ما كفاي مدت لريبة

ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها

ولا دلني رأي عليها ولا عقلي

واعلم أني لم تصيبني مصيبة

من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي!

بذمتك هل هذه الأبيات تساوي مصر، وتجعل هارون الرشيد يقف على حيله ويطالب بلواء وسيف ويعينه والياً على مصر؟

هذا الشاعر حكم مصر سنتين، وخرج منها بنصف مليون دينار، والتاريخ لم يذكر لنا من أين أتى بهذه الفلوس، وكان قد ذهب إلى مصر مفلساً، أما السبب فهو هذه الأبيات التافهة.