من الجملة الثورية إلى الجملة الدينية !

TT

جزى الله قناة الجزيرة الفضائية التلفزيونية كل خير، فرغم عيوبها غير القليلة، فإن لها فضل نقل ما يجرى في العالم العربي على حقيقته؛ خاصة بعد أن أضافت إلى نشراتها الإخبارية، وبرامجها التحليلية، عملية النقل المباشر حيث نرى الأحداث السياسية، والمؤتمرات الحزبية، والخطابات الأيدلوجية، والندوات العلمية وغير العلمية في صيغتها الخام كما جاءت على لسان أصحابها بلا رتوش أو تعديلات. وخلال الأسابيع القليلة الماضية كان الوقت متاحا لمتابعة الخطاب السياسي العربي تعليقا وشرحا وتعبئة، سواء في ما تعلق بالعراق، أو إيران، أو الإصلاح السياسي والاقتصادي، والعلاقات بالطبع مع الخارج وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالطبع قبل كل ذلك وبعده القضية الفلسطينية التي جدد في أحداثها فوز حماس بالانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة الفلسطينية الجديدة.

وبالتأكيد فإن تحليل ما يسمع ويشاهد يحتاج لما هو أطول وأكثر عمقا من هذا المقال، ولكن الملاحظة السريعة الانطباعية على ما يقال هو ذيوع تلك الحالة من التغير في الخطاب العربي من الجملة الثورية التي كانت ذائعة في الماضي إلى الجملة الدينية. وتعبير «الجملة الثورية» ليس من عندنا ولكنه مشتق من الأدب السياسي الماركسي واللينيني والذي رآها حالة سلبية تنتمي إلى ما سمي «بالطفولة اليسارية»، وهي حالة لا ترجع بالضرورة إلى صغار السن، وإنما هي تعود إلى سيطرة الكلمة بإيحاءاتها اللغوية على القائل بها. هذه الجملة على الأغلب تكون مفارقة للواقع وبعيدة عن الظروف الموضوعية القائمة، وهي لا تعرف الحدث بدقة، وهي مشحونة على الدوام باللفظ العاطفي المحرك للأحزان والشجون والحماسة. وهي في كل الأحوال تستهدف الحشد والتعبئة وخلق حالة من الظاهرة الجماهيرية الجاهزة للهتاف والمطالبة بأكثر مما تستطيع تحقيقه، فهي حالة مفارقة للعلاقة بين الهدف والوسيلة، والواقع والخيال. وفي السياسة العملية فإن الجملة الثورية لها وظيفة وهي المزايدة، فنقيضها هو المحاجاة الهادئة القائمة على أجندة واضحة وتوافق على سبل التقييم والحساب والمحاسبة، وتحديد وتعريف دقيق للنصر والهزيمة، والسلام ولاستسلام، والإنجاز والفشل. ولذلك فإن الطفولة اليسارية كانت دوما داعية إلى الثورة الدائمة، والأهداف القصوى التي تخص الإنسانية جمعاء، والإيمان الذي لا يتزعزع بأن الزمن ممتد حتى نهاية الزمان حيث لا بد وأن أهدافا ما ـ نبيلة بالطبع ـ سوف تتحقق لا محالة. وعندما يكون الحال كذلك فإن الطفولة اليسارية، والجملة الثورية، كانت دوما تخوض حركاتها السياسية إلى مغامرات غير محسوبة، وعندما تواجه الفشل فإنها تحيل الأمر إلى انتصار قادم سوف يأتي يوما ما. وهي دائما تتهم المخالفين لها بالخيانة والخروج على الصف، والتخلي عن الأهداف العليا، والمساومة والخوف والتراجع والانهزامية والتثبيط.

كثيرا من هذا عرفه العالم العربي خلال العقود الماضية في أردية ماركسية وقومية، وكانت القضية الفلسطينية في المركز تشحن الجملة الثورية ببطاريات لا تنتهي طاقاتها، وكانت من الحدة والاندفاع العاطفي إلى الدرجة التي أطاحت قيادات سياسية كان لها إدراكات أكثر واقعية، وأكثر قدرة على الإنجاز. وكانت من السخونة إلى درجة أنها دفعت بشخصية عربية تاريخية ـ جمال عبد الناصر ـ لدخول حرب أضاعت بقية فلسطين من النهر إلى البحر، ودفعت إلى الصدام فصائل فلسطينية مع مصر والأردن وفلسطين. وكانت الجملة الثورية من القوة بحيث جعلت الهتاف واجبا لمن يحقق الاحتلال للأراضى العربية، وجعلت اللعنة حالة بمن حررها ـ أنور السادات. وبعد أن كانت الجملة الثورية العربية فى نطاق المكتوب، ما لبثت التكنولوجيا لإذاعة الترانزستور أن أخذتها من دوائر المثقفين والطبقة الوسطى إلى الجماهير وخلقت منها أمواجا هادرة لا تكف عن الهتاف بالروح والدم الذي سيفدي طوائف متنوعة من القادة والأوطان المحررة والواقعة تحت الاحتلال. وأعانت اللغة العربية بثرائها الشعري والحماسي والهجائي أيضا كل من خرج لتعبئة الجماهير ودعوتها للفداء والتضحية بالنفس والنفيس من أجل تحقيق الأهداف المشروعة العظمى، حتى لو نسي في كل مرة تحديد الطريقة التي ستنتقل بها الجماهير من الهتاف إلى الزحف المقدس.

ولكن مياها كثيرة مرت تحت الجسور كما يقال منذ فترة المد القومي واليساري في العموم، ومع الثمانينيات جاء المد الديني بأشكاله المتعددة لكي يرث الجملة الثورية ويضيف لها ويجددها بالكلمات والتوجهات. وهذه المرة لم يكن الفكر السياسي يعتمد على عالم بعيد من الحرية والعدالة والمساواة سوف يأتي ذات يوم إذا ما قدمت التضحيات اللازمة، وخلت الساحة من الخونة والعملاء؛ وإنما يعتمد على جائزة كبرى تأتي في الحياة الآخرة ويفرش الطريق إليها شهداء ودماء زكية. ومع الإيمان بالمسيرة الحتمية في الحالتين فإن الحديث عن الاستراتيجية، والعلاقة بين الأهداف والوسائل، وبناء التحالفات وتفكيك التحالفات المضادة يصبح نوعا من «الانبطاح» الذي تبشر به جماعة من «المارينز» ـ أي صورة طبق الأصل من حديث الخيانة القديم مهما تغيرت الكلمات ومهما انتقلنا من قيادة أحمد الشقيري إلى قيادة خالد مشعل، ومن هتاف فداء «الروح والدم» إلى صيحة «الله أكبر».

ولكن مهما كانت الصلة أو المفارقة بين الجملة الثورية والجملة الدينية فإن كلتيهما تحمل حالة انفصام مع الواقع والأهداف، فكلاهما يتحدث كثيرا عن المقاومة والصمود والتصدى ـ وكلها كلمات شجاعة ـ ولكنه لا يتحدث عن التحرير، لأن الكلمات الأولى حالة أما الكلمة الأخيرة فهي واقع. وإذا استمعت إلى مهرجان جرى حديثا فى دمشق بمناسبة ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، أو إلى مؤتمر عقد مؤخرا في الدوحة لعلماء المسلمين، فإن القيادات القومية والماركسية من الجبهات الشعبية متعددة الأنواع، وقيادات حركة حماس تجعل الليلة أشبه بالبارحة تماما عندما تلتقي الجملة الثورية مع الجملة الدينية التقاء حميما.

وفي هذا اللقاء لا تكاد تجد ذكرا لعملية سياسية إسرائيلية تجري بالفعل للقضاء على القضية الفلسطينية من خلال الفصل الأحادي الجانب، وجوهره على حد تعبير سياسي فلسطيني مخضرم ومحنك «حوصلة» الشعب الفلسطيني داخل ثلاثة جيوب معزولة تحيطها الأسوار والموانع مع بقاء مخارج كافية لكي تخرج الطاقة الحيوية للشعب من رجال أعمال ومفكرين ومثقفين إلى العالم الواسع. وطالما أن النصر قادم لا محالة في يوم من الأيام، وأن العمليات الاستشهادية تشفي الغليل، فإن تصفية الطاقة الحيوية للفلسطينيين، وضياع الأرض فوق ما ضاع، وضياع القضية في المحافل الدولية ليس مهما. وما هو مطلوب لا يزيد عن الاستعداد للتضحية والفداء والاستشهاد، ومن يعترض على ذلك بأن التضحية والفداء امتدت لكي لا تجري ضد الأعداء بل أنها تجرى في معظم الأحوال وغالبيتها ضد عرب ومسلمين ومساجد وحسينيات فلا بد أن في عقله خللا من نوع أو آخر.

كل ذلك تحت ظل الجملة الدينية، مثلما كان الحال مع الجملة الثورية، ليس مهما، فقول الله عز وجل «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» لا يتحول إلى تخطيط علمي، وتفكير حصيف، وحنكة سياسية، وإدارة لعلاقات دولية، وتقوية إلى طاقات علمية وتكنولوجية، وإنما لا يبقى من ذلك إلا الاستخدام الخام للقوة المباشرة المتجسدة في العمليات الانتحارية فهي التي ستحرر فلسطين والعراق، وتحمي إيران، وتهدد العالم كله بأن عدم الانصياع لمطالبنا سوف يزلزل الدنيا زلزالا شديدا ويغرقها في بحار من الدم. وبمثل ذلك تجرى الجمل الثورية والدينية، وبعد ذلك تطلب من العالم المساعدة، والوقوف إلى جانب العدل !!.