المعادلة الإيرانية والملف النووي.. خيارات على حساب استحقاقات

TT

من يتأمل المشهد الإيراني، يلحظ أن ثمة معادلة ما زالت مهيمنة عليه تتمثل في الاعتبار العقائدي والمصلحة الوطنية في ما يتعلق بعملية القرار السياسي داخليا وخارجيا.

بدأت ملامح المعادلة منذ نجاح الثورة الإيرانية في فبراير عام 1979م، حيث اتضح تغليب النظرة الآيديولوجية العقائدية، بدليل استخدام أسلوب تصدير الثورة ومساندة حركات المعارضة الإسلامية الراديكالية ودعمها ضد المصالح الأميركية، وقامت بالتعبئة لرجال الدين في العالم الإسلامي والتأثير عليهم فكريا بما يتفق مع أفكارها الثورية. لكن سرعان ما أخذت المعادلة منحى آخر عقب تولي رفسنجاني رئاسة الجمهورية، فكان التحول إلى البراغماتية والواقعية، حيث شهدت فترة خاتمي ابرز صورها، وهي مرحلة أكدت على تغليب المصالح الوطنية على الفكر الايديولوجي مما جعل البعض يعتقدون أنها مرحلة دشنت مفهوم الدولة وأغلقت الباب على افرازات الثورة.

كانت إيران في العهد الإصلاحي برئاسة خاتمي تمثل النضج السياسي والذي شهد تقاربا خليجيا ـ إيرانيا، وانفتاحا على العالم، مما خلق حالة من الثقة والارتياح والوفاق، وهيأ مناخا تفاؤليا في المنطقة، غير انه لم يلبث ان تلاشى هذا الشعور الايجابي مع مجيء الرئيس محمود احمدي نجاد الذي يبدو انه في طريقه إلى إعادة المعادلة إلى نشأتها الأولى، فيتم تغليب الطرح العقائدي الايديولوجي على مصالح الوطن واهتماماته.

لعل من المستحيل التنبؤ بالمسار الدقيق للأحداث في المنطقة، ولكنه ليس من قبيل المبالغة القول إن هناك احتمالا لحدوث تغييرات في الأوضاع القائمة، فالمنطقة مليئة بالملفات الساخنة وان كان الملف الإيراني أكثرها سخونة وأخطرها تصعيدا وتداعيا، فالعالم يرى في ذلك الملف تهديدا دوليا، لا سيما انه تزامن مع تعاظم للدور الإيراني الإقليمي من خلال استغلال الوضع المتأزم في العراق، والتهديد الذي تواجهه دول المنطقة من الإرهاب ناهيك من لغة طهران المتشددة والاصطدامية والتي قد تجر المنطقة إلى خيارات مؤلمة مما يعني دخول دولها إلى مرحلة عدم الاستقرار الأمني والسياسي. وليس من جديد في القول ان إشعال أي فتيل في المنطقة يعني مزيدا من القلق والتوتر لمنطقة هي متوترة بالفعل، فمسألة امن الخليج قضية مطروحة منذ ثلاثة عقود كونها تتميز بعاملي النفط والموقع الاستراتيجي، وهي المنطقة الملتهبة والتي شهدت ثلاث حروب مدمرة طوال العقدين الماضيين، مما أدى الى زعزعة استقرارها الإقليمي، وما زالت دولها تعاني من تداعياتها، وطالما ان الامر كذلك، فإنه من الطبيعي ان تثار حفيظة العالم ازاء ما تطرحه الرئاسة الايرانية من خطابات متشددة ولغة استفزازية في منطقة تشهد اختلالا في موازين القوى.

على انه ليس سرا ان ما دفع دول المنطقة الى عقد تحالفات عسكرية مع الغرب هو نتيجة للتهديدات الايرانية في الثمانينات فضلا عن الفارق المهول في القدرات العسكرية والبشرية بينها وبين ايران.

قد يجادل البعض بالقول ان اي تصعيد في المنطقة قد يؤدي الى كارثة حقيقية، وفي هذا الكثير من الصحة، الا ان الاكثر صحة ان علاقة العرب مع ايران عبر التاريخ فيها شيء من الريبة، وان الاخيرة لها الرغبة في التوسع والتهديد، ناهيك من خطابها الراهن الذي يفتقد الى الدبلوماسية واللياقة، كما انها اعادت وضع الخيارات الامنية والعسكرية في سلم الاولويات على حساب الاستحقاقات الداخلية من وضع اقتصادي مترد وانفجار سكاني وترهل تعليمي واجتماعي.

السؤال المطروح الآن: ما هي الخطوة القادمة للتعامل مع الملف النووي الايراني؟!

بعد صدور تقرير مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول ايران والذي اكد فيه عدم تعاون ايران بشكل كامل مع مفتشي الوكالة، كان لا بد من موقف او اتخاذ قرار في ضوء ادراك الجميع بضرورة التعامل مع التعنت الايراني.. لا سيما بعد تخصيبها لليورانيوم مما يهيئها لانتاج السلاح النووي، فتمت احالة الملف لمجلس الامن مع تأكيد من اعضائه بضرورة الحل الدبلوماسي، الا ان ثلاثة اعضاء في المجلس لا يمانعون في تضمين القرار اشارة الى امكانية استخدام الفصل السابع كمرجعية يتم الاستعانة بها لاحقا عندما تصل المفاوضات مع ايران الى طريق مسدود، ورغم تحفظ موسكو وبكين على فرض عقوبات اقتصادية فضلا عن الاشارة للفصل السابع، فإن الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا ستصر على صدور قرار يتضمن عقوبات اقتصادية يتم تطبيقها بعد انتهاء المهلة الممنوحة التي ستكون شهرا كما هو متوقع.

على انه يمكن القول ان المواجهة العسكرية قرار قد يطول كثيرا، لا سيما ان هنالك اصواتا داخل الكونجرس تدعو للتفاوض مع ايران او ما سمي «بالصفقة الكبرى» حيث تتعهد واشنطن بعدم القيام بضرب ايران عسكريا في مقابل مشاريع وعقود لشركات اميركية، ويبدو ان المسألة ستأخذ وقتا لحين اتخاذ قرار المواجهة، فيما يعتقد البعض ان قيام حرب في المنطقة امر مستحيل، وقد يقتصر الامر على ضربات عسكرية لمواقع معينة في ايران، ولكن لن يحدث هذا قبل عام فيما لو استمرت ايران في مشاريعها النووية.

على اي حال، تبقى الكرة في الملعب الايراني، فدول الجوار يرغبون في منطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل وتفعيل قرار مجلس الامن عام 1991 بهذا الخصوص رقم (687)، ونحن لسنا بحاجة الى قوة اقليمية غير عربية لتحقق التوازن الاقليمي مع اسرائيل، كما ان حصول ايران على السلاح النووي يعقد المشكلة ولا يحلها بل ويساهم في زيادة التسلح النووي في المنطقة فضلا عن المخاطر البيئية فيما لو حدثت تسربات اشعاعية في المنطقة. في تقديري ان على ايران ابداء حسن النوايا وبناء الثقة والمصارحة مع دول الخليج وتوقيع اتفاقية معهم والتكتل معهم في مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على اسرائيل، ووقتها فقط تعود المعادلة الى وضعها الطبيعي والمنشود حيث يتم تغليب المصالح الوطنية وترتهن للواقعية والبراجماتية في تعاملها مع الغير، ومن دون فهم هذه الحقيقة بشكل صحيح وادراك مضامينها، سيكون من المستحيل التنبؤ بمنطقة آمنة ومستقرة فضلا عن التدخل العسكري ما قد يؤدي الى تغييرات لا يمكن التكهن بها، وربما امام خريطة سياسية جديدة.

ان ايران في حاجة الى نقد ذاتي موضوعي وصادق تستطيع فيه استيعاب المأزق الذي وضعت نفسها فيه، وبالتالي تنقذ نفسها والمنطقة من المخاطر المحدقة بها من كل جانب.

وهذا الهدف لم يعد خيارا بين خيارات بل ضرورة استراتيجية لا بد منها لضمان استقرار الخليج ومستقبله.

Email: [email protected]