موت الفيلسوف جان فرانسوا ريغيل المدافع الأكبر عن السياسة الأميركية في فرنسا

TT

الكثيرون من المثقفين العرب يسمعون بأسماء لويس التوسير، وميشيل فوكو وجيل ديلوز ورولان بارت، وجاك دريد.. ولكن لا أحد يسمع باسم جان فرانسوا ريغيل، الفيلسوف والمنظر السياسي الليبرالي الذي مات بالأمس عن عمر يناهز الثانية والثمانين عاماً.

والواقع ان هذا الشخص غير محبوب حتى في فرنسا ذاتها لأن الفرنسيين لا يفهمون كيف يمكن ان يوجد مثقف كبير غير يساري! يضاف الى ذلك ان الرجل «صوفته حمراء» كما يقال بسبب دفاعه عن النظام الليبرالي الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. ولا يشبهه في هذا المجال إلا ريمون آرون، عالم الاجتماع الشهير والصديق اللدود لجان بول سارتر.

طيلة الحرب الباردة كان آرون وريغيل وقلة قليلة من مثقفي فرنسان تقف في خندق المعسكر الامبيريالي الاميركي وتناهض المعسكر الاشتراكي السوفياتي. ولذلك حلت عليهم اللعنة الايديولوجية في الدنيا والآخرة طيلة خمسين سنة تقريباً. ولم يستريحوا أو يتنفسوا الصعداء الا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وكل الايديولوجيا اليسارية الشيوعية. عندئذ شحبت سمعة اليسار الفرنسي الى حد كبير وعلى رأسه سارتر نفسه. ومعلوم انه كان يقول: كل من ليس مع الحزب الشيوعي فهو كلب! كان ذلك في عز الحرب الباردة أو المدعوة كذلك خطأ لأنها كانت ساخنة جداً من الناحية الفكرية. وكان الصراع الايديولوجي بين المعسكرين على أشده حتى انتصر معسكر «الشر» على معسكر «الخير»، أو معسكر الليبرالية الغربية على معسكر الاشتراكية الشرقية اذا ما استعرنا نفس مصطلحات اليسار الفرنسي أو ما تبقى منه.

ولكن بالرغم من انتصار المعسكر الرأسمالي على عكس كل التنبؤات والتوقعات للمثقفين اليساريين فقد ظل بعضهم يردد الشعار التالي: أن تكون على خطأ مع سارتر أفضل من ان تكون على صواب مع آرون (أو مع جان فرانسوا ريغيل). لماذا؟ لأن سارتر كان يمثل الأريحية والكرم الحاتمي حتى على مستوى حياته الشخصية. فطالما أعطى الفلوس من جيبه للمحتاجين سواء أكانوا كتاباً مبتدئين أو يعيشون ضائقة مالية أم أناساً عاديين. وهذه ممارسة انسانية نبيلة لا يمكن ان تخطر على بال مثقفي اليمين الفرنسي. ولكن فيما عدا الجانب الشخصي من المضووع فان سارتر انخرط بكل قوة في معسكر الشعب الجزائري عندما اندلعت حرب التحرير الوطنية لطرد الاستعمار الفرنسي. وقد عرض نفسه للخطر اكثر من مرة بسبب ذلك. ويمكن القول بأن ريمون آرون وافقه على ذلك على عكس معظم مثقفي اليمين الفرنسي آنذاك.

وبالتالي فعلى الرغم من «عماه الايديولوجي» فبنيما يخص الاتحاد السوفياتي أو المعسكر الاشتراكي الا ان سارتر كان ينطلق منطلقات طيبة وانسانية تخدم مصالح المضطهدين والفقراء اينما كانوا. كان حساسا جداً للظلم والقهر ويميل دائماً لصالح المغلوبين لا الغالبين. ولهذا السبب كره البورجوازية الفرنسية والرأسمالية الغربية عموماً وانضم الى المعسكر الآخر. ولكن الخطأ الذي ارتكبه هو انه لم يعد يرى في المعسكر الليبرالي اي نقطة ايجابية! وهو خطأ نرتكبه نحن جميعاً عندما ننخرط سياسيا في اتجاه واحد فنعمى عن رؤية بقية الاتجاهات. وعندئذ نفقد مرونتنا الفكرية ولا نعود نرى الواقع من كل جوانبه. وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه كل الحركيين السياسيين لكيلا نقول المناضلين. ولكن هل يمكن تحاشيا ونحن في زحمة الانخراط والممارسة والصراع؟ هنا يكمن الفرق بين ـ رجل الفكر ورجل السياسة. وفي بعض اللحظات لم يكن سارتر يفرق بينهما. بالطبع فانه غيَّر موقفه في اواخر حياته، لكن بعد فوات الاوان. ولكن لحسن الحظ فان اعماله الادبية والفلسفية تبقى بعد سقوط نصوصه السياسة او قسم كبير منها.

في كتابه «الهوس بمعاداة اميركا» وهو آخر ما اصدره قبل وفاته يشرح جان فرانسوا ريغيل سبب كره اميركا في فرنسا. وهو يعيده الى الحرب الباردة بالذات وسيطرة الايديولوجيا اليسارية المراهقة او السطحية على الساحة الثقافية الفرنسية. ولكنه يعيده ايضا الى اليمين المتطرف الذي يقوده زعيم الجبهة القومية جان ماري لوبان الذي لم يغفر للولايات المتحدة ان سحبت الزعامة ـ اي زعامة الغرب ـ من القارة الاوروبية التي هيمنت على العالم طيلة القرون السابقة، ويبدو ان «لوبان» هذا وجماعته فرحوا بضربة 11 سبتمبر، بل واحتفلوا بها سريا وشربوا كأسا على نخبها!.

واذن فهناك علاقة بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف: او قل انهما يلتقيان على معادة اميركا وان الاسباب مختلفة تماما. فاليسار يكرهها لانها اكبر بلد رأسمالي في العالم، واليمين يكرهها لانه يحسدها بكل بساطة على غناها وقوتها ولأنها همشت دور فرنسا في العالم وجعلتها تبدو قوة وسطى بعد ان كانت قوة عظمى فيما سلف من ازمان.

لقد دافع جان فرانسوا ريغيل عن اميركا على طول الخط بما فيها حرب العراق. وكانت محاجته على النحو التالي: لقد نزل ملايين الاوروبيين الى الشارع في مظاهرات حاشدة من اجل السلام! كان ذلك في مدريد وروما وباريس.. ولكن هل اصبح صدام حسين بطل السلام لكي يتظاهروا من أجله؟ الا يعرفون انهم يدعمون واحدا من اكبر الديكتاتوريين دموية في العالم؟ ألم يعتد صدام على شعبه وجيرانه طيلة فترة حكمه؟ فلماذا يبدو بوش اذن قاتلا ومجرما ويبدو صدام حملا وديعا؟ من أين جاء هذا التضليل الاعلامي الكبير؟

ثم يحمل جان فرانسوا ريغيل بعنف على المثقفين الفرنسيين الذين حاولوا ايجاد التبريرات والتخريجات لضربة 11 سبتمبر عن طريق القول بان من يزرع الريح يحصد العاصفة. فقد اتهموا السياسة الخارجية الاميركية بانها المسؤولة عن حقد العالم الثالث على اميركا. ولكنه رد عليهم متسائلا: هل الذين قاموا بضربة 11 سبتمبر من معذبي الارض او فقرائه؟

أليس ابن لادن من أغنى الاغنياء؟ وحقيقة الامر هو ان الارهابيين الاصوليين حاقدون على الحداثة الحضارية التي تساوي بين الرجل والمرأة، وتعترف بالتعددية الدينية والتسامح وتحرص على الحريات المدنية والفردية وتؤمن بالديمقراطية وحقوق الانسان..

وهذه اشياء تعتبر كفرا ما بعده كفر في نظرهم وبالتالي فينبغي تدميرها.

لهذا السبب ضُربت اميركا وليس لأي سبب آخر. وربما كان كلامه صحيحا الى حد كبير ولكنه ينسى او يتناسى قصة فلسطين، وأخطاء السياسية الخارجية الاميركية على مدار نصف قرن، كما انه ينسى ان العولمة الحالية التي تقودها اميركا لم تؤد حتى الآن الى تحسين اوضاع الشعوب الفقيرة التي تقف على حافة الجوع او تكاد تموت من الجوع وبخاصة في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية القريبة جدا من اميركا. هنا تتجلى يمينية جان فرانسوا ريغيل او نزعته الرأسمالية التي لم تفارقه طيلة حياته كلها.