صمت يكتبه الغياب

TT

لست أدري ما سر انشغال الكثير من الأطباء بالأدب، فأنا لست على يقين من صحة النظرية التي ترى في ذلك مجرد محاولة لإحداث توازن نفسي يستهدف تخفيف الضغط المتولد من أجواء المهنة المسكونة بالآهات والمعاناة والألم، فالأدب قد يكون الحظ الأنكد كما يراه الروائي وليم ماكس ثاكري، كما أنني لست على قناعة أيضا بمقولة إن التعامل مع الجسد البشري يحفز على التفكير في ما وراء الجسد، فثمة أسرار لم نكتشفها بعد ربما تكون مسؤولة عن هذا النزوح من ضفة الطب إلى الضفة الأخرى البعيدة، ففي السعودية ـ كمثال ـ نجد عددا لا بأس به من الأطباء المشتغلين بالأدب أمثال: عبد الله مناع، عصام خوقير، حسن نصيف، طاهر تونسي، فهد اليحيى، وهناء حجازي، وغيرهم، كما أن على الساحة الأدبية العربية أسماء كبيرة أمثال: يوسف إدريس، مصطفى محمود، إبراهيم ناجي، وعلاء الأسواني وآخرين.

استحضرت بالأمس هذه المسألة التي سبق أن استوقفتني من قبل وأنا أتسلم إهداء رواية «صمت يكتبه الغياب» للطبيبة السعودية سعاد جابر، وقد سيطر على ذهني بعد أن قرأت أكثر من نصف الرواية تلك المقولة الشهيرة التي قالها أحد الناشرين للروائي العالمي مارسيل بروست بعد أن قرأ جزءا من أعماله: «لا بد أن يكون الله قد ضرب على عقلي غشاوة، فلا أفهم كيف يخصص كاتب ثلاثين صفحة يصف فيها تقلبه على فراشه، قبل أن يوافيه النوم»، فلقد حصل لي في البدء ما حصل لذلك الناشر، فكل الصفحات التي قرأتها كانت أشبه برسائل تكتبها ـ من جانب واحد ـ بطلة الرواية لحبيبها الذي يمتهن الكتابة بينما لا تجد لذلك الرجل حضورا خارج كلماتها في أحداث الرواية، لكنني مع هذا آثرت أن أكمل قراءة هذه الرواية العجيبة التي تختزن مفاجأتها المدهشة في فصلها الأخير على طريقة بعض الشعراء الذين يرجئون بيت الدهشة أو المفاجأة إلى ختام القصيدة.. فهذه الرواية لا تفصح عن نفسها، ولا تميط لثام وجهها إلا حينما تصل إلى تخوم فصلها الأخير، حينما تعترف بطلة الرواية بأن كل تلك التداعيات والمشاعر والأحاسيس التي سكبتها مجرد تفاعل مع عمل روائي لكاتب تقمصت دور إحدى بطلات روايته، حتى أنها لتتساءل في نهاية الرواية: «أيكون هذا الرجل غير موجود سوى في مخيلتي؟» وتستطرد بعد ذلك في وصف استرجاع شخصيتها من قبضة تلك الصورة التخيلية التي عاشت في جلبابها طويلا.

وأخيرا: لا بد من القول إن الروائية سعاد جابر قد كتبت رواية لا بد لقارئها من الصبر لإدراك قيمتها وتميزها وروعتها، ولذا فقد لا يجد فيها الذين ألفوا القراءة السهلة أو التعامل مع الأسلوب التقليدي للرواية شيئا مما يبحثون عنه، وعليها أن لا تحزن إن وقف الكثيرون قبل بلوغ نهايتها المدهشة.

[email protected]