في ظل برنامج حكومة المالكي.. إلى أين يتجه العراق أمنيا؟

TT

انطلاقا من الايمان بأن ما يعيشه ويشهده العراق في ظل هذه الظروف الصعبة هو ليس قدرا محتوما على الانسان العراقي الذي أصبح رهين دوامة العنف والارهاب التكفيري والتي وجدت لنفسها دفعا قويا جعلها أكثر شراسة في الايام الاخيرة بسبب الرؤى المتباينة بين الكتل البرلمانية حول افضل السبل لمعالجة اكثر الملفات تعقيدا، وهو الملف الأمني الذي اصبحت ادارته وتوليه والاشراف عليه عرضة للمهاترات السياسية التي لا طائل منها سوى مزيد من دماء الضحايا من المدنيين الابرياء الذين اصبح جل همهم الحصول على لقمة العيش التي يسعون اليها صباح كل يوم، فإذا بهم يعودون الى اهلهم اشلاء مزقتها وحشية ودموية الارهاب التكفيري الذي يستهدف الفقراء لإنسانيتهم ولحبهم أكل رغيف الخبز من عرق جبينهم، ويستهدف الأغنياء أيضا لوفرة أموالهم ولقدرتهم على دفع جزء كبير من الاموال التي تذهب لشراء ادوات القتل البشعة من نفوس مريضة ومتفجرات واسلحة وسيارات وغيرها.

لا نبالغ اليوم اذا ما قلنا ان مصير البلاد ومستقبلها معلقان بآلية ادارة الملف الأمني ومدى فاعلية وجدية ووطنية من سيشرف بشكل مباشر وغير مباشر عليه والذي لا يمكن النجاح فيه وإدارته بما يتلاءم وحجم التحديات الأمنية الخطيرة التي تمر بها البلاد ما لم يتوفر إجماع سياسي وشعبي حول سبل معالجته، وإرادة قوية وعزم شديد ورغبة صادقة لا تعرف الضعف والابتعاد عن الكذب والرياء والنفاق والاقنعة الزائفة في طرح تصورات ومعالجات للملف الأمني لا تمت الى الواقع الميداني بصلة.

لذا ينبغي إدراك حقيقة مهمة، وهي ان تأييد حكومة المالكي ودعم برنامجها السياسي من قبل القوى السياسية التي اشتركت فيها يجب أن يأخذ مستويات عدة رسمية وشعبية في الوقت نفسه، وبخلاف ذلك فإن الحكومة «ستظل ضعيفة من دون اصطفاف الشعب ومكوناته خلفها»، كما وصفها المالكي.

ففيما يتعلق بالأمن، قدم المالكي التزاما صريحا بنبذ العنف وإدانة منهج التكفير بشكل واضح وصريح، والإرهاب بكل أشكاله، والاصطفاف لمكافحته وتطبيق قوانين مكافحة الإرهاب بشكل فعال، هذا فضلا عن التزامه بمعالجة الملف الأمني من خلال خطة متكاملة ذات محاور أمنية واقتصادية وسياسية وإجتماعية وغيرها وإيقاف عمليات التهجير القسري التي أصبحت تمثل خطرا لا يمكن السكوت عنه.

هذا ناهيك عن تعهد المالكي بحل الميليشيات المسلحة وإبقاء السلاح بيد الدولة وإشارته الى إمكانية التمسك بجدول زمني وموضوعي لانسحاب تدريجي للقوة متعددة الجنسيات، وهو ما قد نشهده في الاشهر القليلة القادمة فضلا عن تسلم القوات الأمنية العراقية المهام الأمنية كاملة بعد اصلاحها على اساس المهنية والولاء الوطني، ما قد يطمئن القوى السياسية الاخرى التي ترى ان دور هذين العاملين، الميليشيات والاحتلال، في الحيلولة دون استقرار الوضع الأمني لا يقل خطورة عن المجاميع الارهابية التكفيرية التي يسعى المالكي الى عزلها من خلال تأكيده على تمسك حكومته بإجراء حوار «مع من لديه استعداد للتخلي عن السلاح»، وهو بذلك يعمل على فتح قناة منافسة سياسية مشروعة بين القوى السياسية التي اشتركت في الحكومة والخارجة عنها لجذب كل من يتخلى عن العنف الى المشاركة في العملية السياسية لتوسيع قاعدة الاشتراك فيها بما ينسجم مع الدستور، ويبنى عراقا حرا تعدديا اتحاديا ديمقراطيا، وبروح المصالحة والمصارحة، حسب ما جاء في البرنامج الحكومي.

ولكن هذه النية لا تخفي حقيقة ان لدى المالكي رغبة في أن يكون له الدور الاهم في إدارة الملف الأمني والاشراف عليه بما يمتلكه من علاقات جيدة مع الجميع وروحية المواجهة لأعقد الظروف وأخطر المشكلات، وهذا ما يتضح من خلال أدائه في الفترة الماضية، لا سيما بعد تأكيده انه سيلجأ الى إجراءات عسكرية وأمنية يستخدم فيها أقصى درجات القوة في مواجهة الارهاب والارهابيين والقتلة الذين يتسببون بسفك الدماء.

ولكن ربما سيصبح الوضع الأمني مأساويا اذا ما التقت في زعزعته مصالح القوى السياسية التي اشتركت في العملية السياسية بهدف تعديل مسارها وتقويمها وتلك التي ما زالت تعتقد ان كل من اشترك فيها هو خائن ومرتد وعميل يجب قتله لأنه أصبح جزءا من مشروع المحتل في البلاد، وللأسف فإن هذا الخطاب ينسجم مع آراء بعض أعضاء مجلس النواب الذين ما يزالون مصرين على موقفهم المغازل للجماعات المسلحة، الا ان المشتركات بين الخطابين تبدو مؤهلة لتوفير الارضية الملائمة بالنسبة للاطراف التي اكتشف بعضها بعد اعلان الحكومة ان تولي وزراة الدفاع من قبل شخصية مستقلة وكفؤة وتحظى بإجماع وطني سيعرضه للتهميش وسيكون هو الطرف الخاسر في العملية السياسية التي لم يشترك فيها الا من اجل الضغط لاسترداد الامتيازات والمناصب والمكاسب التي حظيت بها في النظام السابق والتي من أهمها امتلاكها لخبرة عسكرية محكومة بايديولوجية عسكرية ترى بأن المؤسسة العسكرية هي الجهة الوحيدة التي تمتلك ورقة الضغط الفاعلة في تحقيق مكاسب سياسية، وان السياسة قضية خطيرة وجدية إلى الحد الذي لا يمكن تركها للسياسيين وحدهم من دون ان يكون للعسكريين دور في رسم معالمها، وهو أمر يعبر عن سذاجة سياسية لا تقيم وزنا للمتغيرات الدولية والاقليمية والمحلية التي كان لها دور محوري في عملية التغيير التي شهدها العراق.

إننا على يقين ان الخيارات أمام الخروج من هذا الظرف المرحلي مرتبطة الى حد بعيد بمدى فاعلية القوى السياسية بالالتزام ودعم حكومة المالكي، لا سيما فيما يتعلق بالملف الأمني الذي يعتبر ميدان الاختبار الاول في مدى جدية القوى السياسية السنية التي اشتركت في العملية السياسية والواثقة على ما يبدو من قدراتها التي هي على المحك اليوم في العمل على إيقاف دوامة العنف من خلال توليها مسؤوليات مهمة في إدارة الملف الأمني كنائب رئيس الوزراء للشؤون الأمنية، وتقديمها مرشحا مستقلا لوزارة الدفاع، ولذا فإنها أصبحت اليوم عاملا رئيسيا ومتغيرا مهما في تحقيق الأمن والاستقرار وايقاف حالة التداعيات الخطيرة التي يشهدها الوضع الميداني في مناطق متعددة من العراق.

وقد يكون هذا الكلام صحيحا في حال استطاعت هذه النخب السياسية ترسيخ قناعات سياسية وتثقيف مؤيديها بضرورة الإيمان المطلق بنبذ العنف والارهاب والتكفير وتأييد العملية السياسية والتحول الديمقراطي والتمسك وبشكل كامل بحرفية ومهنية القوات الأمنية الوطنية من أجل التصدي لمجاميع الإرهاب اللاإنسانية والقضاء عليها، أيا كانت هويتها أو منطقتها، وهذا ما يعزز من ثقتنا المطلقة بقدرة الانسان العراقي على تجاوز الظرف الحالي الى مستقبل أفضل ينعم فيه الجميع بأمن وسلام.