آخر دراسة للشخصية اللبنانية

TT

قرأت كثيرا عن الشخصية اللبنانية. قرأت ما كتبه علماء الاجتماع وما كتبه الشعراء وما كتبه الفكهاء والرحالة. وطالما حلمت بأن أضع أنا أيضا كتاباً عن «اللبنانيين» على غرار كتاب لويجي بارزيني الرائع عن «الإيطاليين». فالشعبان يتشابهان: شطار وفنانون وغنائيون وأهل متوسط وأهل كيف وطرب. والشخصية اللبنانية لها مكونات ملحمية في البؤس وفي الهجرة وفي النجاح والمغامرة. ولها متناقضات بلا حدود. وسر اللبناني الأكبر مهارته البقائية. وخلال الحرب اللبنانية التقيت في باريس جان كلود ايميه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة السنيور دي كويار، فسألته متى ستنتهي الحرب عندنا، فقال ضاحكا: لن تنتهي الحرب عندكم. لأنكم تعثرون على حل لكل شيء. يغلق المطار فيفتح الميناء. ويغلق الميناء فيفتح البرّ. أنتم شعب يتقن فن البقاء.

كل ما سمعته وقرأته عن الشخصية اللبنانية تصاغر أمامي وأنا أقرأ المقطع التالي من كتاب «العرب الأميركيون» لجورج اورفليه، وهو ينقل كلاما لمسافر جلس قربه في الطائرة بين باريس وقبرص، في السنة السابعة من الحرب اللبنانية: «في المقعد المجاور، كان يجلس سمير. وهو مهندس مولود في السنغال تلقى علومه في فرنسا ويعمل الآن في بيروت. قدّم لي سيجار دافيدوف ثم قال: اسمعني جيداً. أنا اجعل من نفسي ما تريدني الناس أن أكون. إذا حدثني مسلم بلهجة إسلامية رددت بلهجة إسلامية. إذا حدثني مسيحي، أرد بلهجة مسيحية. وعليك أن تتعلم اللهجتين. إذا التقيت فرنسياً أحدثه بالفرنسية. انكليزي أحدثه بالانكليزية. ما هي الأوطان؟ ما نفعها؟ المهم هو البقاء. وفي سبيل ذلك، أنا لا احد. لا شيء. وفي الوقت نفسه أنا جميع الناس. اللبنانيون متفائلون. إذا بكيت فقيداً اليوم فأنا غداً في شارع الحمراء أبيع الثمار لأن الحياة ستستمر. إن الأمل كلمة كبيرة عند اللبنانيين. لقد عشنا سبع سنوات من العنف ولا أزال حياً. فلماذا لا أعيش سبع سنوات أخرى. الأعمال والمال مهمان جداً عندنا. الأعمال لكي تلهينا عن فكرة الموت، والمال لكي نشتري الأمن. الأمن كلمة مهمة عندنا. لا تحاول أن توفر. اصرف على أمنك. نحن في هذه المنطقة لا شيء. مسرح. مجرد مسرح عمليات. ومسرحية دائرة باستمرار. أميركا هي المنتج وإسرائيل هي المخرج. وجبة من لحم الضان والسلطة. إسرائيل، الخروف، تأكل السلطة المصنوعة من العرب. وأميركا تأكل الخروف والسلطة معاً».

تهبط الطائرة والمهندس لا يزال يشرح بقائياته للمؤلف. بقي جزء واحد من الشخصية اللبنانية: يمسك سمير بعلبة السيجار ويقدمها لرفيق السفر. يحاول هذا الاعتذار. فيقسم سمير على شرفه. على أولاده. برحمة والديه. وحياتك عندي. ولو؟ منشان الخبز والملح. إلى آخره.