الفلسطينيون بعد اللبنانيين: هروب إلى الحوار من أجل الحوار!

TT

مثله مثل الحوار الوطني اللبناني، فالحوار «الوطني» الفلسطيني، إن هو لم يكن فاشلا قبل أن يبدأ، فإن الجلسات التي عقدت وان التصريحات التي أطلقها بعض قادة «حماس» تدل على أن هذا الحوار مثله مثل حداء حادي الصحراء الذي عندما يستبد به الخوف ليلا وهو مسافر وحده، يبدأ بالغناء بصوت مرتفع ليغطي على ضربات قلبه، وليبعد هوام الأرض عن نفسه.

عندما تداعى قادة التيارات والأحزاب والحزيبات اللبنانيون، وحشروا أنفسهم في قاعة مجاورة لمبنى البرلمان اللبناني، على بعد مئات الأمتار من مكان الانفجار الذي أودى بحياة الشهيد رفيق الحريري، كانوا يعرفون سلفا أنهم لن يتفقوا وأنه لا مجال للتلاقي، ولو على الحد الأدنى، بالنسبة للقضايا المختلف عليها، وأهمها نزع سلاح «الميليشيات» وإقالة رئيس الجمهورية وترسيم الحدود مع سوريا، بما في ذلك مزارع شبعا التي باتت تستخدم كـ «قميص عثمان» لغرض في نفوس أنصار الوجود السوري في لبنان.

لكن ومع ذلك، فإن الحوار من أجل الحوار قد استمر، والواضح أنه سيستمر، ما دام ان الأمور المختلف بشأنها لا تزال عالقة، والسبب هو إدارة الأزمة المستفحلة، وهو تجنب مواجهة الاستحقاق الذي تدل كل الحيثيات والمعطيات الشاخصة على ان موعد دفعه قد حان وهو أيضا ضرورة الجلوس حول دائرة مستديرة واحدة وتبادل الابتسامات المفتعلة والاتفاق على وضع الأكف فوق العيون للتظاهر بعدم رؤية أجواء الحرب الأهلية البغيضة المخيمة!! .

حتى قبل أن تبدأ القوى اللبنانية المختلفة حوارها، فإنه كان معروفا أنه لا توجد أي إمكانية للحلول الوسطى، وأن مغادرة خنادق القناعات والمواقف المسبقة غير ممكنة، وأنه غير ممكن أيضا الاتفاق، ولو على الحدود الدنيا، إن بالنسبة لنزع سلاح حزب الله، الذي بات يقول انه لا يمكن أن يتخلى عن سلاحه ما لم تتحرر فلسطين، وفوقها هضبة الجولان، وما لم يخرج الأميركيون من المنطقة، وما لم يعد المهدي المنتظر ليملأ الأرض عدلا بعد ان امتلأت جَوْرا وظلما، وإن بالنسبة لإقالة الرئيس أميل لحود الذي تعتبر إقالته تحديا لدمشق، والذي هناك إصرار سوري على عدم استبداله بآخر، حتى وإن كان هذا الآخر هو الجنرال ميشال عون.

لم يحرز المتحاورون أي تقدم، ولكنهم بقوا يتحاورون وبقوا يتفقون على مواعيد جديدة للاستمرار كلما شعروا بالسأم، وكلما أحسوا بأن مواصلة القفز فوق حبال الهواء ربما تؤدي الى انتكاسة مفاجئة أو انفجار لغم من الألغام الكثيرة، هنا أو هناك. والواضح ان ما يلزمهم إلزاما بعدم إيقاف هذه اللعبة التي غدت مملة والتي أصبحت بدون أي أفق، هو أن الشعب اللبناني الذي اكتوى بنيران الحرب الأهلية، أكثر من مرة، يريد مواصلة هذا الحوار من أجل الاستمرار بتجميد الخلافات، وحتى وإن كان من المعروف سلفا أنه لا يمكن إحراز أي نتيجة.

وإن هذا هو ما فعله الفلسطينيون، عندما بدأت الحرب الأهلية تتجول في شوارع غزة، وعندما بدأت ثعابين الاقتتال الداخلي تطل برؤوسها عبر نوافذ بيوت مدن وبلدات الضفة الغربية، وعندما بدأت حركة «حماس» وحركة «فتح» بتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها الشعب الفلسطيني، واعتبر أن تجاوزها بمثابة أم الكبائر وخيانة وطنية لا تغتفر.

لقد هرب المختلفون والمتخاصمون من شوارع غزة، التي غدت ساحات مواجهة بين قطعان الملثمين الذين زرعوا الخوف في أفئدة الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، الى القاعات المكيفة الجميلة في مدينة رام الله، التي كانت تعتبر أجمل المصايف الفلسطينية ذات يوم، وفي غزة أيضا ليتحاوروا من أجل الحوار فقط، وليفعلوا ما يفعله اللبنانيون وليتعانقوا ويتبادلوا الابتسامات المفتعلة مع بقاء كل طرف في خنادقه القديمة.

لقد دفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في اتجاه الحوار الوطني، على أساس مبادرة الأسرى الفلسطينيين، وهو يعرف مسبقا ان هذا الحوار سيبقى حوارا على غرار الحوار اللبناني وأن حركة «حماس» المستمرة بإطلاق بالونات الاختبار وإطلاق الرسائل المتناقضة ستحبط هذه المحاولة إن هي شعرت بأنها ستخرجها عن خط سيرها، وإن بمقدار قيد أنملة.

وهنا، فإن المؤكد ان كل من قرأ «البيان الختامي»، بعد جلستي الحوار في يومين متلاحقين من نهايات الأسبوع الماضي، لا بد وأن ترسخت لديه القناعة بأن هذا الحوار كان هروبا من مواجهة حقيقة ان الحرب الأهلية قد بدأت في غزة، وأن من أنزل الى الشارع قوة مقابلة وموازية للأجهزة الأمنية التابعة لرئاسة السلطة الوطنية بقرار مدروس، لعبت القيادة الخارجية الدور الرئيسي في اتخاذه، لا يمكن أن يتراجع عن مواقفه رغم تبادل العناق والابتسامات المفتعلة مع قادة حركة «فتح» الذين يقولون انهم أُخذوا على حين غرة، وانهم لن يسمحوا لمن التحق بالمسيرة الفلسطينية أكثر من ربع قرن ان «يسرق»!! منهم نتيجة نضالهم المكلف وكفاحهم الطويل.

في بيروت، هناك «لوي جيركا» لبنانية تواصل الانعقاد وفق مواعيد محددة، ولكن بدون نتيجة وبغرض الحوار من أجل الحوار. وفي رام الله وغزة، التأمت الـ «لوي جيركا» الفلسطينية عبر الأقمار الاصطناعية، والكل هنا وهناك اختاروا التجديف في الهواء، ليس من أجل إحراز تقدم، وإنما من أجل إدارة الأوضاع المتفجرة والهروب من استحقاق صعب باتت كل عوامل وموجبات دفعه متوفرة.

لا يمكن أن تقبل «حماس» بقطع الطريق على مشروع عنوانه الجهاد في سبيل الله، وتحرير فلسطين من البحر الى النهر، وإقامة شرع الله في البلاد المجاورة للمسجد الأقصى، ومحتواه الوصول الى السلطة والاستفراد بها وإزاحة حركة «فتح» من الطريق، بعد تشويهها والقول فيها أكثر مما قاله مالك في الخمر، وإنشاء منظمة تحرير جديدة على غير أسس المنظمة السابقة، وذلك إذا لم تكن هناك إمكانية لمصادرتها و«أخذ الجمل بما حمل»!!.

وبالمقابل، فإنه لم يكن متوقعا أن تقبل حركة «فتح»، ومن أجل حوار كحوار الطرشان، أن تستسلم وأن تشارك في حكومة «وحدة وطنية»، وفقا لبرنامج غير برنامجها الذي قامت السلطة الوطنية على أساسه، وأن تعطي لحركة «حماس» ما لم تعطه إياها هذه الحركة، ولهذا فقط تعثر الحوار الفلسطيني، وهو في الخطوة الأولى، وغدت المواجهة في ميدان «الاستفتاء الشعبي العام» الذي استله أبو مازن كسيف مسلول هو الخيار المرجح الذي لم يعد هناك، كما يبدو، أي خيار غيره.

عندما تتملص حركة «حماس» من وثيقة الأسرى الفلسطينيين التي هي الأرضية التي أقيم على أساسها هذا الحوار، وعندما تعيد مغاوير داخليتها الى شوارع غزة، في هيئة إعادة انتشار، وعندما يواصل قادتها رفض برنامج منظمة التحرير ورفض الاتفاقيات مع إسرائيل التي وقعتها السلطة الوطنية ورفض مبادرة السلام العربية، فإن هذا يعني أن الحوار اللبناني ربما يكون أوفر حظا، فهو على الأقل متواصل ولم يتوقف في حين ان حوار الفلسطينيين إن هو لم ينته بعد، فإنه سينتهي بالتأكيد الى المواجهة في ساحة «الاستفتاء العام».

لقد أشرفت الأيام العشرة، التي حددها الرئيس الفلسطيني كمهلة للاتفاق قبل الذهاب الى ميدان الاستفتاء العام، على الانتهاء، ولقد أعلنت حركة «حماس» أنها لن تلتزم بهذه المهلة بعد أن شككت في شرعية ومشروعية هذا الاستفتاء، وذلك في حين ان لجنة المتابعة التي جرى تشكيلها أساسا من أجل حفظ ماء الوجه ولتجنب إعلان الفشل قد انتهت الى لا شيء، وان الأوضاع كلها غدت أكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق، وان عوامل الصدام غدت متوفرة أكثر مما كانت عليه قبل الهروب للاحتماء من حرب أهلية غدت على الأبواب، بالحوار من أجل الحوار.

وهكذا فإن الفلسطينيين لم يستطيعوا الحفاظ على الحوار الذي لجأوا إليه هروبا من الحرب الأهلية، كما حافظ عليه اللبنانيون، فالأوضاع ازدادت تفاقما ومأساوية. والمؤكد أنه إذا مضى محمود عباس (أبو مازن) بما كان هدد به، وهو الاستفتاء العام على «وثيقة الأسرى»، فإن الأمور ستنتقل من خنادق الاحتكاك و«المهارشة» الساخنة الى خنادق المواجهة العسكرية المكشوفة.

سيضطر رئيس السلطة الوطنية الى اللجوء الى أبغض الحلول إذا بقيت «حماس» تصر على عدم التخلي عن مواقفها الحالية، وهو سيبادر الى إقالة حكومة اسماعيل هنية، والدعوة لانتخابات جديدة. والمؤكد ان كل هذا لن يمر بسلام، وأن حركة المقاومة الإسلامية التي تعتبر أن «الشرعية» الى جانبها، ستدافع عن هذه الشرعية بقوة السلاح، وحتى إن أدى ذلك الى الحرب الأهلية التي يعتبرها الشعب الفلسطيني محرمة وخطا أحمر.