الانتصار في الحرب ممكن جدا

TT

لم تعد الحرب اليوم هي الحرب التقليدية التي تشنّها الجيوش على الحدود الدولية لينتصر طرف في النهاية وينهزم الآخر، بل أصبحت الحرب اليوم متداخلة في كلّ مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. وبينما يعتصر الألم قلوبنا كلّ يوم ونحن نتتبع قوافل الشهداء في فلسطين والعراق الذين يقضون في حرب إبادة منظّمة، من الخطأ الشديد أن نشعر أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً لأننا لا نستطيع أن نمنع صواريخ الاغتيالات من الوصول إليهم لأنّ هؤلاء الشهداء يمثّلون وجهاً واحداً من أوجه المعركة التي تُشنُّ اليوم بانتظام وتخطيط ضدّ هوية هذه الأمة وحضارتها ومستقبلها. والمقاومة في أيّ وجه من أوجه هذه الحرب تشدّ دون شك من أزر هؤلاء المقاومين وتؤسس لانتصارات قادمة ولو بعد حين.

وأحد أوجه الحرب الخطيرة التي تتسرّب إلى كلّ بلد ومدينة وحيّ في هذه الأمة من المغرب إلى مصر والعراق والكويت، من المحيط إلى الخليج، هي الحرب على مكانة اللغة العربية في قلوب وضمائر العرب أولاً، ومن ثمّ مكانة اللغة العربية في المدارس والجامعات. ولا شكّ أنّ هذه الحرب تطال الوضع الثقافي والحضاري برمّته من سرقة متحف بغداد إلى إضرام النار في المكتبات الجامعية والمراكز الثقافية في فلسطين والعراق والآن في مصر، ولكنّي سوف أحصر معالجتي اليوم في موضوع اللغة العربية باعتبار أنّ اللغة تمثّل الوعاء الأهمّ للهوية، وأنّ الشعوب التي لم تكن تمتلك إلا لغات بدائيّة جداً بذلت الغالي والرخيص للنهوض بلغتها، بينما يتّفق معظم العرب اليوم أنّ الجميع مقصّرون بحقّ لغة من أعرق وأغنى لغات الأرض، إن لم تكن أعرقها وأغناها على الإطلاق.

ولنبدأ من اليوم ومما يجري في معظم البلدان العربية في إطار التعليم الحديث وافتتاح المدارس الخاصة الحديثة المنفتحة على تعليم اللغات الأجنبية، نلاحظ أنّ اللغة الأجنبية لم تدخل المناهج كلغة فقط، وإنما كوعاء للتفكير والحوار، بينما تراجع دور اللغة العربية في هذا الصّدد. ومن هنا ترى طلاب هذه المدارس يتحدثون بالإنكليزية أو الفرنسية مع الشعور أن إتقان اللغة الأجنبية أهمّ من إتقان اللغة العربية باعتبار أنّ الإنكليزية هي لغة الانترنت ولغة العلم ولغة البحث العلمي اليوم. وقد يكون في هذا ردّة فعل على خطأ آخر ارتُكب حين لم يكن تعليم اللغات الأجنبية هاماً على الإطلاق فإذا بنا مع جيل في متوسط العمر اليوم لا يتقن لغة عالمية، ولكن الجواب لا يكون من خلال الانتقال إلى التركيز على اللغات الأجنبية وإهمال اللغة العربية. ولمن يريد أن يجادل أنّ هذه المدارس تعلّم اللغة العربية، أقول إنني أتحدث عن تعليم اللغة العربية بالطريقة التي كان يتعلمها جيلنا، جيل الستينيات، حين كنا نقرأ الشعر ونحفظ القصائد ونطالع لخيرة الكتّاب العرب ونشعر بالعار ونحن في الحلقة الإعدادية إذا رفع أحدٌ منصوباً أو جرّ مرفوعاً، ونقطّع أبيات الشعر عن ظهر قلب، ونلتهم مؤلفات طه حسين والمنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، ونتبارز في تحليل «حديث الأربعاء»، والجدل الدائر بين الرافعي وطه حسين، ونحفظ جبران خليل جبران عن ظهر قلب، ونكتب في لوحة الإبداعات القصص والشعر والمقال. هكذا كانت العربية بالنسبة لأبناء جيلنا هوية وانتماء وتاريخاً وثقافةً وأدباً. ولم يمنعنا ذلك على الإطلاق من إتقان اللغة الأجنبية حين اللزوم، ولكنّ الانتماء ظلّ واضحاً وظلّت الهوية ساطعة في قلوبنا وعقولنا لا تشوبها شائبة.

ولمن يدّعي أن الانتقال إلى لغات أخرى هو ضرورة من ضرورات العصر، أقول هل وجدتم في ألمانيا من يجيب على سؤال بالإنكليزية أو في إيطاليا مثلاً؟ أوَلم نرَ الرئيس شيراك يغادر قاعة الاجتماعات في الاتحاد الأوروبي لأنّ ممثل فرنسا أخذ يتحدث بالإنكليزية فغضب الرئيس شيراك من ذلك، كما أنّ كافة ممثلي الدول، حتى وإن أتقنوا لغاتٍ أجنبية، يستخدمون لغتهم الوطنية في الاجتماعات والمحافل الدولية، أما ممثلو البلدان العربية فمنهم من يستخدم الفرنسية ومنهم من يستخدم الإنكليزية، وقلةٌ هم اليوم الذين يستخدمون العربية في المحافل الدولية، وإذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال، قد يتمّ إخراج اللغة العربية من الأمم المتحدة بعد أن ناضل أسلافنا نضالاً مريراً لإدخال هذه اللغة كلغة أساسية يتحدّث بها ما يقرب من ثلاثمئة مليون إنسان. ففي بعض البلدان العربية اليوم يصعب أن تجد من يتقن اللغة العربية إتقاناً شديداً، كما أنّ بعض المؤتمرات والندوات التي تقام في بلدان عربية ترسل الدعوات إلينا، نحن العرب، بالإنكليزية، وتكتب ملاحظة أن لغة المؤتمر هي اللغة الإنكليزية، وأنّ الترجمة متوفرة لمن لا يتقن الإنكليزية، مع ما تحمله هذه العبارة من النيل من قدر من لا يتقن الإنكليزية، فأنا مع إتقان اللغة الإنكليزية، طبعاً، ولكن على أن تكون لغة أي مؤتمر في بلدان عربية هي اللغة العربية دون نقاش.

لقد كتب عبد الصمد بن شريف عن التطرف اللغوي في المغرب، وكيف أنّ اللغة الفرنسية هي لغة الدولة ولغة الإدارة ولغة الأعمال الهامة، وأنّ من يريد أن يرتقي في سُلّم العمل لا بد أن يكون متقناً للفرنسية وليس ذلك مشروطاً بأن يكون متقناً للعربية، ولو قام أحد بدراسات في دول عربية كثيرة لوجد تراجعاً هائلاً في إتقان اللغة العربية واستخدامها لحساب لغات أجنبية أخرى. وأنا التي كتبتُ منذ سنوات زاوية أسبوعية أدعو إلى تدريس اللغات الأجنبية منذ الصغر والتركيز عليها في مدارسنا، ولكن ليس على حساب اللغة العربية، وليس من الواجب أن تكون على حساب اللغة العربية، بل قد أثبتت الدراسات أنّ تعليم اللغات للأطفال يُطلق ملكاتهم في جميع اللغات ويصبحون أقدر على إتقان أي لغة نريد. وإتقان العربية يعني أكثر بكثير مما نرى اليوم، فهو يعني التمكن من اللغة وتحديث مصطلحاتها والكتابة والبحث والإبداع بها بطريقة تجعلها منافسة على مستوى العلوم والآداب والأبحاث. إذ ليس من الطبيعي على الإطلاق أن تتسامح بلدان عربية بمادة اللغة العربية لمن يريدون ولوج الجامعات، ولا يوجد بلد في العالم يتساهل في إتقان أبنائه للغته لأنّ اللغة هي الهوية وهي الضمان الوحيد لمستقبل الانتماء.

ولمن يجلسون أمام التلفاز في هذا العالم العربي الكبير، ويشعرون بالإحباط أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً أمام هذا الواقع المتردّي والمعقّد، أقول افعلوا شيئاً آخر في متناول أيديكم، ركّزوا على تعليم أبنائكم العربية، لغة القرآن الكريم والشعر العربي، وتذكّروا أنه في التاريخ العربي كانت الكنائس والجوامع هي التي تدرّس العربية في مدارسها، وهي التي خرّجت خيرة المفكرين والكتّاب العرب فلماذا تراجع هذا التقليد الجميل وغابت هذه المدارس اللغوية والأدبية عن الوجود؟

لقد بدأت الصحوة اليوم في العالم لإعادة الاعتبار لخصوصية الهوية الثقافية والتراث واللغات في وجه عولمة كاسحة. وإذا كانت العولمة قد أتت للعرب بحروب إبادة جسدية في فلسطين والعراق، فإنها أيضاً أتت لهم بحروب إبادة ثقافية ولغوية تنخر في كلّ بيت ومدرسة ومؤسسة، فهل يمكن لنا، نحن المعنيّين بالكلمة والثقافة، أن نركّز على إعادة الاعتبار للغتنا كوعاء أساسي حضاري لنقل الفكر والتجربة والتراث والتاريخ؟ وأن نتخلّص من مفهوم اقتران الحداثة باللغة الأجنبية على حساب الأصالة والهوية والانتماء.

إن الانتصار في معركة اللغة والثقافة يُؤسس من دون شكّ لانتصارات سياسية تكرّم الشهداء وتشكّل خطوة جوهرية على طريق الانتصار الأكبر.