أحلام أولمرت .. هل هي محرمة على غيره؟

TT

لم تمنع زيارة رئيس وزراء إسرائيل الجديد يهود أولمرت إلى واشنطن، التي تشدق فيها بكلمات السلام وسط تصفيق الإدارة الأميركية وأعضاء الكونجرس، الذين وقفوا تحية له أكثر من عشرين مرة، لم تمنع الزيارة قواته في هذه الأثناء برئاسة وزير الدفاع، الذي كان يدعي الاعتدال وعشقه للسلام من استمرار عمليات القتل والتدمير في الأراضي المحتلة والأراضي التي أعيدت إلى الفلسطينيين في غزة وأجزاء من القطاع، واستمر سقوط الشهداء سواء من المناضلين أو المدنيين الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال، وقد أدهشني أن السيد أولمرت لم يحصل في واشنطن على لقب صانع السلام أو رجل السلام، ثم تذكرت أن هذا اللقب مشغول حاليا بواسطة ارييل شارون، الذي يرقد في المستشفى بين الحياة والموت وحالته تماما مثل حالة الأمل المتلاشي في أن نرى الروح تدب فيما كنا نسميه عملية السلام.

ولا أعرف في مثل هذه الظروف لماذا يعجب بعض الكتاب الأفاضل من أن تتزايد الشكوك في إسرائيل كلما حدث أمر جلل، بينما نجدهم مستفيدين لإدانة كل ما يقوم به العرب. وأنا هنا لا أدعي أن العرب لا يخطئون فهم خطاءون وهم أحيانا أسوأ الخطائين لأنهم لا يتوبون.

ولطالما وجهت ووجه غيري اللوم على تصرفات ومواقف تضر ولا تفيد، لأنها تعطي الزاد لأعدائنا لكي يستمروا في خداع العالم ويرتدوا ـ على حسابنا وحساب قضايانا العادلة ـ مسوح الحملان الأبرياء، ولكن ليس معنى هذا أن نبرئ من لم يكفوا عن التآمر علينا واغتصاب حقوقنا، إلى درجة تصل إلى إيجاد الأعذار للجاني، وتحميل المجني عليه مسؤولية ما يحدث له، لأنه استفز أو دافع عن نفسه أو رفض الظلم أو طالب بحقه، علما بأنني في كل الأحوال لا أوافق على استهداف المدنيين.

إن الحكم الموضوعي على الأمور، هو الأداة الصحيحة لإيجاد الحلول السليمة التي نبحث عنها لنجنب المنطقة كلها بما فيها الدخيل الذي استقر على جزء من الأرض رضينا له أن يستقر بها إذا تخلى عن تطلعات التوسع والهيمنة، وهذا هو جوهر المبادرة العربية التي ووفق عليها في قمة بيروت بالإجماع دون تحفظ أو اعتراض، حتى من أكثر الدول اتهاما ـ حينذاك ـ بالتطرف. أقول حتى نجنب المنطقة كلها أهوالا تسلب أبناءنا ـ وأبناء غيرنا ـ المستقبل الذي يتمناه كل أب لابنه. ويلي الحكم الموضوعي استخلاص الدروس مختلطة بعبر الماضي، حتى يمكن رسم خريطة حقيقية للتحرك الجاد يتفق عليها الجميع فعلا، وليس كما حدث بالنسبة للخريطة الشهيرة التي ما إن ظهرت إلى الوجود حتى قام الإسرائيليون بأساليب «الحواة» بعملية خداع النظر حين أخفوها تحت 14 تحفظا كل منها كفيل بوأدها، وفي نفسي الوقت حاولوا إلصاق الجريمة بغيرهم.

ثم خرج «الحاوي» بفكرة الانسحاب من جانب واحد من غزة مكبلا بقيود تجعل من القطاع «جيتو» فلسطينيا وبديلا عن تسوية حقيقية تشمل الضفة الغربية أيضا باعتبارها الجزء المكمل لقيام الدولة الفلسطينية المتصلة القابلة للحياة مستقلة وآمنة تجمع قدر الإمكان الشتات الفلسطيني عائدا إلى وطنه، مثلما تجمع شتات اليهود خلال مائة عام في أرض لم تكن لأغلبهم أدنى صلة بها، سوى حلم أحياه اضطهاد الأوروبيين ـ وليس العرب أصحاب الأرض ـ لهم.

ولعلي بعد أن استرسلت في أحاديث جرت أحاديث، أعود إلى زيارة أولمرت للولايات المتحدة والخطاب الذي ألقاه أمام الكونجرس، فأشير بصفة خاصة إلى بعض ما تضمنه إضافة إلى ما حواه من «دغدغة» للمشاعر الأميركية بما في ذلك الإشارة إلى تشابه بداية الدولتين وهو أمر لا أريد التعليق عليه تاركا الحكم فيه لمن يقرؤون التاريخ ويستوعبونه أو حتى لمن شاهدوا الأفلام التي أتحفتنا بها هوليوود حول الهنود الحمر ومصيرهم.

أتوقف إذن عند نقطتين:

1ـ تحدث عن استمرار اقتناعه بحق إسرائيل التاريخي والأبدي في كل أرض فلسطين، وقد أكد بذلك أنه لا يقر بحق الفلسطينيين في وطنهم، وأن انسحاب إسرائيل بالتالي من أي جزء من الأرض المملوكة أصلا للشعب الفلسطيني، هو تفضل منه «لأن الأحلام وحدها لا تسمح على حد قوله بالحفاظ على دولة يهودية آمنة وديموقراطية»، وفي فقرة أخرى يقول إن إسرائيل مصممة على أن تتخذ خطوات عملية لتحويل أحلامها إلى واقع، ويوحي هذا الكلام بأن العدول عن إسرائيل الكبرى ـ التي تبتلع كل فلسطين ـ هو عدول تكتيكي، ولذلك فإن الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية هو اعتراف مؤقت بدولة مؤقتة بحدود مؤقتة، إلى أن تتوافر الظروف لتحقيق الحلم.

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يريدون حرمان الفلسطينيين من أن يكون لهم حلمهم أيضا، وإذا كانت هناك رغبة في سلام حقيقي يستند ليس فقط، كما يقول أولمرت، على الأمن بل أيضا على العدل ـ كما هو مفروض لضمان ديمومته ـ فإن ذلك يقتضي ليس فقط اعترافا من الفلسطينيين بحق إسرائيل في البقاء، بل أيضا وبالدرجة الأولى اعتراف إسرائيل بحق الدولة الفلسطينية في الوجود.

2 ـ تحدث أولمرت عن «الإرهاب الفلسطيني»، والغريب أنه أشار في مجال هذا الحديث إلى فتاة يهودية كان أبواها يعملان في فندق الملك داوود بالقدس، ولعله نسي أن الإشارة لهذا الفندق، تذكر بقيام العصابات اليهودية بتفجير الفندق ذاته في الأربعينيات على رؤوس من كانوا بداخله، ولعله نسي أيضا أن ما يسميه اليوم إرهابا، كان هو نفس الأفعال التي سماها اليهود مقاومة مشروعه ضد الاحتلال.

ولا أريد أن استطرد طويلا في هذه الأمور، لأن هدفي هو الخروج من المأزق، الذي تجد القضية الفلسطينية نفسها فيه، وفي البداية أقول مرة أخرى إني لا أشعر أني قريب من فكر وايديولوجية حماس السياسية والاجتماعية، ولكن الحقيقية الناصعة هي أن حماس جاءت إلى الحكم نتيجة انتخابات حرة، مثلما جاء بيجين المتطرف ـ الذي كان يرفض مصافحة أي عربي ـ إلى الحكم في السبعينيات. وارتضى الرئيس السادات، بل بادر إلى التفاوض معه دون أن يشترط عليه القبول مقدما بطلباته، وما أراد هو ضرورة بدء مفاوضات بين السلطة الفلسطينية بجناحيها ـ الرئيس والحكومة ـ وإسرائيل على أساس إما الاعتراف المتبادل الواضح الصريح، أو المبادرة العربية التي تحمل متطلبات التسوية السلمية العادلة بكل الوضوح دون أن تترك عنصرا منها ويقتضي هذا أن تعدل إسرائيل عن مشروعاتها لتحديد حدودها من جانب واحد، وأن يتم تمديد الهدنة من جانب الطرفين وأن يتوقف فورا الحصار الجائر ضد الشعب الفلسطيني، الذي هو في حقيقته دعوة إلى الغضب والعنف.

وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تلعب دورا جادا وبناء لصالح السلام، الذي تحتاجه جميع الأطراف، فإن عليها أن تضع ثقلها وراء مثل هذا الأسلوب للتحرك، كما أن الدول العربية يجب أن تسير في الطريق الذي تحرص مصر على أن تسلكه بتوظيف اتصالاتها لنفس الفرص، واعتقد ان المهمة العادلة حاليا على الناحية الفلسطينية هي تشجيع الحوار الوطني الفلسطيني، حتى يتوافق الجميع على خط السير دون الحاجة إلى إجراء استفتاء قد يعمق الخلافات.

وليس من شك في أن وثيقة السجناء الفلسطينيين هي وثيقة تصلح أساسا للتوصل إلى صيغة متفق عليها أو أنه ليس مطلوبا أن يتبناها الجميع دون تعديل فهي اجتهاد محمود ومطلوب، ولكنها لا يمكن أن تكون إملاء، كما أن كلا من الرئيس أبو مازن وحكومة أبو هنية جاء بناء على الإرادة الشعبية بأطيافها المختلفة، مما يعني أن الاتفاق بينهما على أسس تجمع بين التمسك بالثوابت (حتى إذا لم يكن مفهومها لدى الطرفين متطابقا تطابقا كاملا كما ذكر أبو مازن) واللجوء إلى الأساليب المرنة التي توصل إلى الهدف، ليس أمرا مستحيلا وأنا ممن يحسنون الظن بالطرفين، وممن لا يوافقون على ما قاله البعض من أن الرئيس الفلسطيني تحدى بخطابه حماس، بل اني اعتقد أن التحدي يواجه في الواقع كل الأطراف الفلسطينية لتخرج من الفخاخ التي تنصبها لها إسرائيل، وتسير قدما نحو بناء الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة القوية على كل الأراضي التي احتلت 1967 بما فيها القدس عاصمتها الشرعية.

ليست المهمة سهلة، ولكنها ليست مستحيلة، ولن يكون الفلسطينيون وحدهم إذا شرعوا فيها.