«حزب الله» وصدام «الثقافات اللبنانية»!

TT

مجهولون يطاردون مخرج ومعدّ البرنامج اللبناني الساخر والدمث «بس مات وطن»، ويقول الرجل إنه مهدد وتقدم بشكوى قضائية خوفاً على حياته وسلامة عائلته. هذا خبر بحجم كارثة للبنانيين الذين طالما تغنوا بحرية التعبير، حتى فوجئوا بالتظاهرات الغاضبة وأعمال الشغب التي تلت عرض حلقة هزلية تم خلالها تقليد الأمين العام لـ«حزب الله»، ورأوا بأم العين أن «الحرية» هي شعار فارغ كالطبل في بلادهم، لا تستطيع أن تحميه أكثرية أو تدعيه أقلية.

وفوق الشغب وإحراق الإطارات وإغلاق الطرقات، بسبب برنامج قال غالبية المتظاهرين إنهم لم يشاهدوه، خرج الأمين العام للحزب ـ الذي لم يشاهد البرنامج بدوره ـ ليصفهم بالصابرين ويدعوهم للهدوء. لا نعلم على ماذا صبر المتظاهرون، لكننا ندرك أن خطاب السيد حسن نصر الله الذي تلا الشغب، جاء ليكسر بدل أن يجبر. فالتأكيد على اختلاف الثقافات، وتعدد الخصوصيات بين الطوائف، في بلد بحجم شارع في البرازيل، مسألة يصعب بلعها فما بالك بهضمها.

فبعد أن غضبنا على هنتنغتون بسبب نظريته في «صراع الحضارات»، ها نحن نجد من يركب مقولاته على قياس لبنان. ولو دخلنا في تفصيل الخصوصيات، قد نكتشف أننا نبدأ بالطائفة وقد لا ننتهي بالفرد، مروراً بالحي والشارع والزقاق، فمن يأمن سوء العاقبة؟

ها هو أمين معلوف يخبرنا في «هوياته القاتلة» أن لكل بشري، هوية وثقافة وانتماء، هي جميعها أشبه ببصمة تميز صاحبها عن غيره، ولن تجد لها على الأرض ما فتشت مثيلاً. فعن أي ثقافات يتحدث «حزب الله» وإلى أين ستقودنا نظريته المبتكرة هذه، خاصة أن ثمة من استساغوا البدعة، وراحوا يمعنون في الحديث عن حضارات وشعوب لبنانية مختلفة، بلا استحياء أو وجل. ولو افترضنا جدلاً أن الجميع انصاع لرغبات حزب الله، التي بدأت بالمطالبة بعدم المس بالشخصيات الدينية (وهذه أيضا باتت تحتاج إلى تعريف واضح) في البرامج التلفزيوينة الساخرة، لتتثاءب المطالبة وتتمدد شاملة الشخصيات السياسية، مع استخدام عبارة «عدم المس بالكرامات». وهنا سؤال يطرح نفسه، هل كل الذين قبلوا تقليدهم في البرامج الساخرة منذ سنوات طوال هم بلا كرامة، أم أنهم قرروا أن يستعيدوا كرامتهم اليوم وليس غدا. وهو ما فعله الجنرال ميشال عون، إثر صمت طويل على تقليده في تلفزيون «المستقبل». لكن الآن فقط، وبعد احتجاج «حزب الله» المدوي، نطق الجنرال واعترف :«إننا لو أردنا الرد على كلام تيار المستقبل لكنا احرقنا التلفزيون التابع له». وقبل أن تبدأ معركة حرق التلفزيون، وها نحن نعيش مرحلة توقيف البرامج، ماذا نفعل غداً لو اعتبر الأصوليون السنة أن خصوصيتهم الدينية تستوجب وقف «الفيديوكليبات»، والبرامج الاستعراضية، التي باتت زاد التلفزيونات اللبنانية، ومصدر رزق لآلاف العاملين؟ ماذا لو ادعت طائفة ثالثة أن نوعا آخر من البرامج هو ـ في اعتبارها ـ مسٌ بثقافتها؟ هل هذا هو الطريق القويم إلى الوحدة الوطنية، وتفادي «حرب الثقافات» الذي تواطأت على الاتفاق عليه الحكومة؟ وإلى أين سنذهب في مراعاة القبائل لخصوصيات بعضها البعض؟

ما هو مثير أن «حزب الله»، في خطابه الجديد، أدخل اللبنانيين أجمعين، وبدون رحمة، إلى مناطق وعرة، ورد على برنامج فكاهي يستخدم الصيغة الكاريكاتورية التضخيمية على الشاشة، بخطاب سياسي كاريكاتيري تضخيمي على الأرض.

ولو وضعنا نظرية «الثقافات اللبنانية» التي أقحمنا فيها الحزب وورطنا، جانباً، سنجد أسوا منها نظرية القداسة التي بدأت بالسلاح المقدس للمقاومة، ثم صارت المقاومة كلها مقدسة، والآن ها نحن امام قدسية أشخاص. والأمر لا يتوقف على «سيد المقاومة» حسن نصر الله، عديدون من الصحافيين، ومنهم مخرج برنامج «بس مات وطن» نفسه، قال ان احد نواب الحزب كان قد اتصل به سابقا محتجا على ظهوره مقلداً في البرنامج. والبشارة الكبرى للبنانيين أجمعين أن طاقتهم على التقديس واسعة وفضفاضة، وثمة زعماء باتوا بالفعل قديسين وأولياء صالحين، في طوائفهم. والإعلان عن قدسية شخصيات سياسية في «حزب الله» سيجرُّ إعلانات أخرى، كنا بغنى عن إخراجها إلى العلن. فإذا كان ثمة من يستحق القداسة لأنه قاوم إسرائيل، فلم لا يُقدَّس من قاوم سوريا، أو حتى من حارب «طواحين الهواء»، فكل طائفة وما تهوى. وحرب المقدسات في تاريخ البشر لها ارشيف دموي مرعب.

الكاريكاتيرية باتت سيدة الموقف حتى في نشرات أخبار «تلفزيون المنار» الذي ربط مباشرة إثر عرض الحلقة الفكاهية الشهيرة بين ما قدمه البرنامج و«حملة منسقة ومبرمجة تندرج في سياق القرار 1559 وتقوم اولا على نزع صفة القداسة عن سلاح المقاومة ورموزها وشهدائها تمهيدا لتقديمها على مذبح القرار المذكور». وربطت القناة بين ما أسمته «الإساءة الإعلامية المختبئة خلف قناع حرية التعبير، والتعبير الصريح الذي جهر به سابقا النائب وليد جنبلاط ونال فيه من قداسة المقاومة وقائدها متحدثا في حينه عن قداسة وهمية. انها القداسة اذا غاية المسيئين ومن خلفهم».

وفي محراب القداسة الذي يزجنا به «حزب الله» مرات عديدة في اليوم الواحد، تتفاقم اللهجة التضخيمية حتى تأخذ مقاسات عملاقة بالقياس الى الحدث الأصل.

فماذا لو دخل أي مخرِّب على الخط اليوم، ونال من المخرج شربل خليل، وهو ما نرجو ألا يحدث ابدا؟ هل يقبل «حزب الله» بخطاب مؤامراتي موازٍ على نفس المستوى من تلفزيون الـ«إل. بي. سي»؟ وماذا لو ربطت أي إساءة تمس المخرج باغتيالات صحافيين سابقين بسبب حرية التعبير؟

إشعال النيران، أسهل كثيرا من إطفائها، وقد جانب «حزب الله» كل صواب حين عمل من الحبَّة قبَّة، وأطلق نظرياته الخطيرة، في تربة لبنانية خصبة ما كانت تنتظر سوى رمي البذار. ولجهل أو قصد يصعب تفسيره، رضي الحزب الذي عرف بعقلانيته وحكمته، وحظي باحترام اللبنانيين العروبيين، من مختلف الطوائف، وما أكثرهم، ان ينخرط في لعبة لا تليق به.

وبمنتهى الصراحة نفضل ألف مرة برنامجاً كاريكاتيريا يسخر من الكبير والصغير وينتهي بظرف نصف ساعة، وكان الله بالسر عليم، على خطاب كاريكاتيري سياسي تجري أحداثه على الأرض بجدية مرعبة لا مزاح بعدها ولا وطن.