مفارقة : الغرب يقترب من التخلي عن دعم الديمقراطية عربياً..!

TT

شاركت منذ أيام قليلة مضت في مؤتمر جمع أعضاء من الكونجرس ومسؤولين بالخارجية الأمريكية ببرلمانيين ودبلوماسيين نظراء لهم من دول الاتحاد الأوروبي فضلاً عن عدد من الخبراء الأكاديميين تحاوروا حول أهم القضايا العالمية الراهنة. تصدر ملف التحول الديمقراطي في العالم العربي القائمة، متبوعاً بالملف النووي الإيراني والتطورات السياسية في روسيا بوتين والصين.

وفي حين تفاوتت المواقف بشأن إيران وروسيا والصين، أظهر نقاش معضلة الديمقراطية في عالمنا تطابقاً شبه تام بين الأمريكيين والأوروبيين في القراءات والاستنتاجات. وقبل أن يتسرع القارئ الكريم في استدعاء خطاب الغرب المعلن حول نشر الديمقراطية كمدخل لتوقع محتوى الأسطر القادمة أو البحث في السياسات الغربية الحالية كإطار لتفسير المحتمل من توجهات مستقبلية، أبادره القول بأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في سبيلهما للتراجع نهائياً عن ممارسات الأعوام الثلاثة الماضية التي رامت دعم إمكانات التحول الديمقراطي عربياً. ولنبدأ باستعراض ما ذكر في اللقاء ثم نضعه في خطوة ثانية في سياقه السياسي الأوسع. ركزت مداخلات وتعليقات البرلمانيين والدبلوماسيين الأمريكيين والأوروبيين من جهة على الاستحالة الآنية لهدف الديمقراطية في العالم العربي، ومن جهة أخرى على مخاطر إجراء مزيد من الانتخابات في ظل أوضاع مجتمعية تعطي لتيارات الإسلام السياسي أغلبية شعبية واضحة. أما الخطاب التبريري المصاحب للمقولات السابقة فادعى مروجوه بالأساس أن الديمقراطية هي عملية شاملة تستدعي تقدماً اقتصادياً واجتماعياً، بل وتنبني على مؤسسات دولة حديثة ورابطة مواطنة عصرية ومجتمع مدني علماني يحيد الولاءات الأولية من دينية وعرقية. وكل ذلك في ملة أولئك بين غياب مطبق أو ضعف مستشري في أرض العرب. ثم أفرد المشاركون الغربيون مساحة زمنية طويلة للتشديد على أن آلية الانتخابات غير صالحة لإنجاز التحول الديمقراطي حين عدم توفر الشروط السابقة وقد تسمح في التحليل الأخير لقوى دينية متطرفة باختطاف مجتمعاتها والانقلاب على الآلية التي أتت بهم لقلب اللعبة السياسية والدفع باتجاه نظم ثيوقراطية جديدة. أما الاستراتيجية المقترحة فهي ببساطة الكف عن الضغط على نظم الحكم السلطوية إن في المغرب ومصر أو الأردن واليمن خوفاً من انهيارها والاعتماد عليها وعلى نخبها في خلق دولة المؤسسات وحكم القانون وبلورة رابطة المواطنة العصرية وتمكين المجتمعات المدنية من مجابهة توحش الدينيين.

المرعب في هذه المقاربة هي سذاجتها البادية لأي مهتم بالشأن العام وليس فقط للمحلل السياسي. فإن كانت الدول الغربية تعتزم رفع أيديها عن النظم السلطوية العربية وعدم الدفع باتجاه التحول الديمقراطي وترغب في إخراج عنصر الضغط الشعبي الوحيد المتمثل في التيارات الإسلامية من المعادلة خوفاً من تداعيات مشاركتها في اللعبة السياسية، فما هي دوافع بل ومحفزات تلك النظم للإقدام على الإصلاح؟ هل يؤمل الأمريكيون والأوروبيون في لحظة استنارة يمر بها الحاكم أم في نخب اختبرت على مدار حقب زمنية طويلة وفشلت في إنجاز تقدم حقيقي على ذات المستويات التي يراها الغرب اليوم مركزية من حكم القانون إلى تمكين المجتمع المدني؟ وإن ادعوا أن دبلوماسية الحوار هي الأداة الأمضى في إقناع النظم السلطوية بحتمية الإصلاح التدريجي المنظم، فأين هي أدوات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للإقناع الحواري؟ هل ستتمثل في وعود براوبط اقتصادية وتجارية أمتن (القوة الناعمة لاتفاقات التجارة الحرة) إن أصلحت النظم العربية والأخيرة تدرك أن الغرب صار يخشى ضياع مناطق نفوذه التقليدية مع صعود الصين والهند إلى مراكز اقتصادية عالمية مناوئة أم في فرض حلول لمشاكل إقليمية كبرى تتهدد الجميع كفلسطين والعراق والغرب حولها بين انقسام وبين تناقض تام مع الرؤى والمصالح العربية؟

إلا أن الأكثر رعباً بل والمؤلم بالمقاربة الغربية الراهنة للعالم العربي، وأصداؤها تتردد في جنبات مراكز صنع القرار بواشنطن والعواصم الأوروبية بقوة، إنما يتمثل في خلفياتها الفلسفية والأيديولوجية. فخبرة الولايات المتحدة والدول الأوروبية وغيرها من الديمقراطيات المستقرة اليوم من الهند إلى البرازيل تنبئ بأن حكم القانون والمواطنة العصرية ليس لهما أن ينجحا إن غابت التعددية السياسية واحتكرت نخب بعينها السلطة وحالت دون تداولها. يستند حكم القانون إلى الفصل بين سلطات الدولة الثلاثة وحياد المؤسسات العامة ومسؤولية الحاكم وإمكانية محاسبته كمضامين أساسية تقتضي لتفعيلها على أرض الواقع وجود نخب بديلة وحكومات ظل تراقب وتساءل. ينطبق ذات الأمر، وإن بصورة مختلفة، على رابطة المواطنة المهمشة للولاءات الأولية، فهي تتبلور وتستحيل حقيقة مجتمعية مع تصاعد إيمان أغلبية المواطنين بحياد ونزاهة إدارة الشأن العام وتتواكب طردياً مع بزوغ أحزاب وحركات جماهيرية تصيغ هويات سياسية مدنية تتخطى حواجز الدين والعرق.

تلك هي الخبرة الإنسانية وهي التي روج لها الغرب مراراً في أقاليم العالم المتنوعة، فلماذا يكيل بمعيارين عندما يناقش إمكانات التحول الديمقراطي عربياً؟ لسببين، أولهما الخوف على المصالح الحيوية من تقلبات وتهديدات ديمقراطية عربية قد تأتي بمن يعادي الغرب إلى مقاعد الحكم. وثانيهما أهم، لأن الأول جلي وواضح أيضاً في أمريكا اللاتينية يسارية الهوى الانتخابي دون أن يدفع ذلك المتضرر الأكبر الولايات المتحدة إلى المطالبة بإيقاف الانتخابات هناك، ألا وهي النظرة الاستعلائية العنصرية للعرب ككائنات لاعقلانية قاصرة لا تستطيع ممارسة الديمقراطية ومن الأفضل ضبط حركتها الهميونية بنظم سلطوية موالية للغرب (في المؤتمر المذكور تحدث العديد من المشاركين الأمريكيين والأوروبيين عن نتائج الانتخابات الفلسطينية الأخيرة باعتبارها حصيلة اختيار طفولي يستوجب العقاب). هو إذن ذات المزيج اللعين من تعاليم المدرسة الواقعية في السياسة الدولية (المصالح أولاً) والاستعلاء الغربي (عبء الرجل الأبيض) المسؤول عن الكارثة القادمة في اقتراب الأمريكيين والأوروبيين من عالمنا. فعلى الرغم من كل شطط خطاب المحافظين الجدد في السنوات الماضية وكارثية استراتيجية نشر الديمقراطية بتدخلات عسكرية، يظل هدف دعم التحول الديمقراطي وممارسة الضغط الغربي على النظم السلطوية من أجله مشروع بل وقريب من تطلعات أغلبية كاسحة من المواطنين العرب.

* باحث مصري بمؤسسة كارنيجي للسلام العالمي بواشنطن.