من هجرة الأدمغة والإعلام.. إلى هجرة المعارضة..!

TT

بعد أن امتلأت أوروبا والولايات المتحدة بالمهاجرين العرب والمسلمين، بدأت في السنوات الأخيرة تستقبل بشكل غير مسبوق، المعارضين العرب والمنظمات العربية غير الحكومية، أي أن المنفى لم يعد كما كان عبارة عن جغرافية آمنة للجوء السياسي، الذي يضمن الأمن على حياة المعارضين، بل تحول من فضاء للاعتزال والهرب حفاظا على الروح إلى فضاء للتحرك السياسي وللنضال من أجل الديمقراطية والتغيير بعيدا عن العراقيل الموجودة في داخل الأوطان العربية.

والأمر في الوقت الحالي، لا يقتصر على هجرة بعض الأشخاص، بل إن المتغير الجديد يتمثل في أن المهجر أصبح يحتضن أحزابا عربية معارضة، وفيه تلتئم المؤتمرات التأسيسية، ومنه أصبح الحزب المعارض العربي يعلن عن وجوده وعن برنامجه وعن بياناته.

والملاحظ أنه حتى التسميات التي أصبحت تسمى بها التكتلات المعارضة، تعكس تلك الرغبة في الخروج من سجن الداخل نحو المنفى، أين الآفاق أكثر رحابة بالنسبة إليهم، الشيء الذي جعل مثلا المعارضين السوريين يختارون الإعلان عن أنفسهم من لندن كجبهة للخلاص الوطني السوري.

كما أن أوصاف أخرى كثيرة، تندرج ضمن مفهوم هذا الشوق إلى الخلاص، علما بأن الخلاص كمفهوم يمتلك في أصله دلالات روحية دينية، فيما منحته المعارضة العربية بعدا سياسيا يعكس في أولى دلالاته أن الاختناق في داخل الأوطان العربية، قد وصل إلى مستوى الذروة، فأصبح يطلب الخلاص كحل يتيم.

إذا المتغير الجديد أمام الدول العربية اليوم، هو أن هناك حالات هجرة لبعض أحزاب المعارضة العربية، التي فقدت الأمل في ممارسة دورها في الداخل. ولأن أحزاب المعارضة العربية التي تتحرك انطلاقا من المهجر، ترى حسب أطروحتها أنها أجبرت على خيار الهجرة، فإن أغلبها يتشبّث بوصف «الوطني» في الأسماء التي وضعتها لأحزابها، من ذلك أنه في جوان من العام السابق، دعت المعارضة اللبيبة إلى ما سمّته بالمؤتمر الوطني للمعارضة الليبية، وفي جوان الحالي أعلن المعارضون السوريون عن جبهة الخلاص الوطني السورية، أي أن فكرة الوطن والشعور الوطني وغيرهما، قد أصبحت في حالة هجرة اضطرارية، بعد أن كانا من الأفكار والمشاعر التي لا تغادر تربتها أبدا.

وبالتالي يمكن القول إن الدول العربية اليوم، أصبحت تقوم بتصدير أحزاب المعارضة إلى الخارج. ولكن يبدو أن عملية التصدير هذه مشفوعة بالخسارة ولا تدر أي قدر من العملة الصعبة!

ويبدو أن هجرة الأدمغة العربية، ثم تكوين صحف بما سمي بإعلام المهجر، كانا يشيران ضمنيا إلى أن العدوى ستنتشر ولو ببطء، إلى أن نصل إلى ظاهرة هجرة الأحزاب المعارضة، بما يعني عمليا بأن المصير العربي بصدد التشكل اليوم في المهجر،

وفي الحقيقة تمثل مسألة الهجرة في تاريخنا الديني السياسي أمرا مركزيا وآلية من آليات تحقق أي نوع من الحراك المطموح إليه.

فقد هاجر صحابة الرسول إلى الحبشة وهاجر النبي محمد (ص) إلى المدينة، حيث وفّر لنفسه ولرسالته الأمن وخلق فضاءات للتحرك وللفعل.

وطبعا هجرة جبهات الخلاص، قد تمت لدواع بعيدة عن المبررات القديمة، إلا أن الثابت أنهم وجدوا في المنفى الأمن ومجالا للحركة السياسية، خصوصا أن وسائل الاتصال ومنها الأنترنت والفضائيات، كلها قد أضفت على المنفى خصوصيات لا تمت بصلة بمفهوم العزلة، كما كنا نعهده ونفهمه.

بل إن مفهوم العزلة وجدلية الداخل/ المنفى قد شهدا انقلابا في المعنى جعلا من الداخل في منظور المعارضة العربية عزلة، ومن المنفى تواصلا وحركة وشبكة مكثفة ومتنوعة وذات فعالية وجدوى من العلاقات، الشيء الذي جعل صورة المنفى على الشاكلة القديمة تتلاشى، بعد أن أصبح المنفى يوفر للمعارضة العربية وسائل عمل، بالإضافة إلى الدعم الدولي المتمثل في المنظمات الحقوقية والدولية والمنظمات غير الحكومية.

من جهة أخرى، كثيرة هي المؤشرات التي تدل على الأنظمة الغربية، وبحكم وعي الطرفين بخطورة المنطقة العربية، أصبحت لا تتوانى في توفير سبل الحماية للنخب المعارضة المهاجرة والمنظمات العربية غير الحكومية، التي تتبنى نبرة توحي بانخراط واضح في مشروع تغيير الواقع العربي.

وحتى مفهوم الهجرة الانتقائية الذي بدأ يتحول إلى قانون، وأغلب الظن أنه ستتبناه كافة البلدان الغربية، فإن من بين ما يهدف إليه التركيز على النخب سواء السياسية أو الثقافية أو العلمية، لا سيما وأن أمارات الاستفادة من هجرة المعارضين قد باتت واضحة ومطلوبة بالنسبة إلى الأنظمة الغربية، التي ترى في جبهات الخلاص العربية طريقا لتحقيق الديمقراطية وتغيير الواقع العربي، الذي أنتج إرهابيين يهددون أمن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

وأمام التلاشي النسبي لمفهوم الصداقة بين الأنظمة العربية والأنظمة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن ما هو بصدد التشكل، هو صداقة الأنظمة الغربية ودعمها للمعارضين المهاجرين.

لذلك فإن بيت القصيد هو أن «الداخل» في بعض الأوطان العربية، قد فشل في استيعاب الأصوات الديمقراطية، وفي البعض الآخر نجده ما زال يتصارع معها، مع رفض شديد إلى أن يقاد إلى واقع أفضل، فيه تكمن المصالح الحقيقة للأنظمة العربية.

فهل انه بعد هجرة العقول وهجرة الإعلام وهجرة المعارضين، سنصل إلى هجرة الموالين للواقع الحالي؟

ربما..!

* كاتبة تونسية

[email protected]