نزوح آخر

TT

كل شعور خاضع لقانون النسبية إلا الشعور بالقلق. الحزن نسبي. الخوف نسبي. الحنين نسبي. القلق ليس له قياسات ونسب ونظريات. لا استطيع ان اوقف قلقي على عائلتي، بمجرد ان اعرف ان آباء كثيرين لا يعرفون شيئا عن عائلاتهم. ولا استطيع ان اخفف من قلقي بمجرد التفكير ان عائلتي تملك وسائل الخروج من القصف والضرب والهلاك، بينما غيرها لا يملك. فابنتي هي ابنتي لا ابنة احد سواي. وكونها تتحول اول مرة، وهي في بداية العشرين، الى نازحة، مسألة ستطبع نفسها مدى العمر. فقد كانت تعرف، في حدسها الصغير، ان لبنان بلد سريع العطب، لكن لا هي ولا أنا ولا أحد، كان يعتقد ان اللبنانيين سوف ينزحون مرة اخرى. او بالأحرى ان اسرائيل سوف تسد في حصارها ايضا سبل النزوح.

غادرت بيروت قبل اسبوع من عائلتي. وكنا على موعد في 13 تموز. وقد رفض الرقم 13 ان يكذب تاريخه. فعندما اعلن ان المقاومة خطفت جنديين اسرائيليين وقتلت سبعة، اتصلت بزوجتي وقلت لها ان تسرع في الخروج، لأن الرد هذه المرة لن يكون اقل من ضرب المطار. لكن اسرائيل سبقت الى ضرب المطار. واعتقدنا ان الانتقام قد حدث. والأمر انتهى. وسوف يكون بالامكان السفر عن طريق دمشق او قبرص. لكن اسرائيل فجرت البر وحاصرت من البحر. وراحت تدك الجسور والطرقات وتحرق وقود الاضاءة. وكانت هذه الحرائق والمدافع على بعد قليل من المنزل. وتعرفت ابنتي للمرة الأولى على طريقة حياة اعتادها اللبنانيون فيما بينهم، ومن خلال الاعتداءات الاسرائيلية، عاما بعد عام. فالجبهة اللبنانية، مثل الجبهة الفلسطينية، ليست على الحدود، بل بين البيوت وعلى الجسور وعلى المرافئ وفي قوافل السيارات. وبعد يومين من وضوح مدى العدوان العسكري، قلت لاذاعة «الشرق» في باريس، ان ما يحدث ليس ردا. بل هي الجبهة الشرقية تشتعل من جديد، ولكن بسبل اخرى وعناصر اخرى: هذه المرة في الجنوب المقاومة الاسلامية لا المقاومة الفلسطينية. والفلسطينيون جبهتهم في غزة. والجولان هادئ لكنه يشتعل في لبنان. والمحرك الأساسي الجديد للجنوب وغزة، هو ايران، التي تخوض حربا بالواسطة ضد اميركا في العراق وفي غزة وفي جنوب لبنان.

الى اللقاء.