الكتابة والكلام باللغة الإنجليزية..!

TT

في عام 1987، كنت باحثا زائرا في مؤسسة بروكينجز الأمريكية المعروفة في واشنطن، وخلال فترة وجودي في العاصمة الأمريكية كان عليّ الاختلاط في مناسبات متعددة مع وفود دول كثيرة، كانت بطبيعة الأمور تتحدث باللغة الإنجليزية، وتعرض أوراقا وبحوثا بنفس اللغة في المؤتمرات والندوات وورش العمل التي شاركت فيها. وكان ما استمعت إليه في أمريكا مختلفا كثيرا عما كنت أستمع إليه في القاهرة، وعلى سبيل المثال فقد كان الزمن أيام جورباتشيف والبيرسترويكا، وبينما كان يجري تفسيرها في مصر والعالم العربي على أنها مجرد عملية لجعل النظام الشيوعي أكثر كفاءة، ولا تخل من قليل أو بعيد بالعلاقات العربية ـ السوفيتية الأزلية بالصداقة والتعاون وحتى التاريخ المشترك، كان ذلك مختلفا تماما على الناحية الأخرى من الاطلنطي. فقد كان التغيير الجاري في موسكو لا يقل عن مراجعة كاملة للشيوعية في المبادئ والأساليب والأهداف، أما العلاقات مع العرب فقد كان التأكيد واضحا أنها كانت من بقايا العهد البائد الذي آن أوان الخلاص منه بعد التكلفة العالية التي كلفها العرب للشعب «الروسي» من دون شكر أو عرفان بالجميل.

وللحق، فلم يكن الروس وحدهم هم الذين يتحدثون ويكتبون بلغة مختلفة عن تلك التي كنت أستمع إليها في القاهرة، بل كان هناك أيضا كثير من الأشقاء السودانيين الذين كنت أستمع إلى كلماتهم في المحروسة عن العلاقات التاريخية الأزلية، والنيل الذي يجري في دماء الجانبين؛ ولكنهم في واشنطن كانوا لا يتحدثون إلا عن الاستعمار المصري، والنزعة المصرية للهيمنة على السودان.

ومن يومها، فقد تعلمت اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة للبحث عن الحقيقة، لأنها كانت تجري في إطارات علمية مفتوحة ومشفوعة بالحريات العامة المعروفة بالغرب؛ وربما لأن التجربة أثبتت أن ما يقال في الغرب عادة هو الذي يثبت صدقه بعد ذلك.

وبالطبع، فإن ذلك لا يمكن أخذه بصورة مطلقة، وفي كل الأحوال، وإنما لا بد من أخذه في الاعتبار لأنه يوجد دائما للقاعدة استثناءات. وكان ذلك هو ما جرى تماما صباح يوم الثلاثاء، الحادي عشر من يوليو الجاري، عندما كنت بالولايات المتحدة مشاركا في واحدة من الندوات، فوجدت على مقعدي مقالا للسيد إسماعيل هنية رئيس الوزراء الفلسطيني منشورا في صحيفة الـ«واشنطن بوست» الأمريكية، تحت عنوان «العدوان تحت ادعاءات زائفة».

ويجب أن أعترف منذ البداية، أنني من المعجبين بالسيد هنية، كما أنني من المتعاطفين معه في ظروفه التي تجعل من المستحيلات إدارته لشؤون الشعب الفلسطيني وقيادته لنضاله. وقد اشتد إعجابي به بعد مقارنته بالقيادات الفلسطينية الأخرى، فهو من الناحية الشخصية يتميز بالأناقة وأربطة العنق الملفتة، وهو منهج في حركات التحرر الوطني ينتمي إلى الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو الذي كان لا يذهب إلى اجتماع مع الحلفاء، إلا وهو في كامل أناقته، مشيرا إلى أنه ينتمي إلى شعب متحضر ومحب للحياة من ناحية، وإلى أن القتال فرض عليه وهو كاره له من ناحية أخرى. ويعد ذلك منهجا مختلفا تماما لقادة تحرر وطني كانوا يحرصون على اللباس العسكري، أو اللباس المتواضع الذي يدل على انشغالهم الدائم بالقتال والنزال، وكان من هؤلاء ماوتسي تونج وكاسترو وياسر عرفات، ومؤخرا السيد خالد مشعل.

ولكن المسألة ليست بالطبع، الصفات الشخصية لاسماعيل هنية، فالأهم دوما كان خطابه السياسي الذي بدا دوما معتدلا وخاصا بمعاناة ومطالب الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال. وهو ما يختلف تماما عن خطاب خالد مشعل الذي يضع نفسه والشعب الفلسطيني ضمن تيار عالمي مستقبلي ممتد من فنزويلا، حيث السيد شافيز وثورته اللاتينية، وحتى إيران والصين، حيث التحدي النووي والاقتصادي للولايات المتحدة. يعد بالنصر المبين للأمة العربية والإسلامية، وضمن ذلك تأتي فلسطين. وبغض النظر عن مدى صحة مقولات مشعل التي يرددها في دمشق والدوحة، وكلما كان ذلك متاحا في عواصم أخرى، فإنه كان يمثل منهجا وخطابا مختلفين عن ذلك الذي يقدمه هنية وعدد من أقطاب حماس الآخرين.

والحقيقة أن مقال هنية في الـ«واشنطن بوست»، كان مؤكدا على هذا الخلاف المنهجي، فهو كان عارفا تماما بالجمهور الذي يتوجه إليه، فما كان هناك نوع من الوعيد الخاص بانهيار الإمبراطورية الأمريكية قريبا، وإنما كان هناك تذكير في البداية باحتفالات عيد الاستقلال الأمريكي، أي بأن الولايات المتحدة، مثلها مثل الشعب الفلسطيني، كانت تعاني من الاحتلال والظلم. وكان ذلك ما فعله عندما فصل في طبيعة المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال، ولم يكن في ذلك لا شاكيا ولا باكيا، وإنما كان موضوعيا، مؤكدا أن الحملة الإسرائيلية الحالية هي جزء من منهج بربري منظم للضغط على الشعب الفلسطيني، سواء تم خطف الجندي جلعاد شاليط أم لا، وهو الذي كان مجرد جندي غاب عن وطنه وأهله، بينما غاب آلاف من الفلسطينيين، منهم النساء والأطفال، عن بيوتهم لسنوات طويلة.

ولم يكن خطاب هنية مجرد عرض للحالة على كل بشاعتها، بل كان أيضا محاولة للخروج منها بقدر من الحنكة والحصافة التي تفتح نوافذ للحل ـ وليس أبوابا بأي معنى ـ أو للبحث عن حل للعقدة الدموية الحالية. فالمقال ببساطة يؤكد على كل ما أكدت عليه كافة فصائل حركة التحرر الوطني الفلسطينية من استعادة الأراضي المحتلة في عام 1967؛ ولكن الجديد هو ما جاء حول حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948. وهنا توجد ملاحظتان: الأولى هي أن إسماعيل هنية باللغة الإنجليزية لا يتحدث عن عودة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 إلى أراضيهم وأملاكهم وبيوتهم، وإنما تحدث عن حل RESOLUTION. والثانية فإنه يستخدم كلمة FAIR لوصف هذا الحل، وهي كلمة تختلف عن كلمة JUST، فرغم أن كليهما يمكن ترجمته باللغة العربية إلى كلمة «عادل»، فإن الكلمة الأولى، تعني سياسيا، عدلا نسبيا يمكن للأطراف التعايش معه، أما الكلمة الثانية فإنها تعني عدلا مطلقا يصبح الصراع في غيابه حتميا. وهو ما يفتح الباب لكل الحلول العاجلة المعقولة من أول التعويض والتوطين في الدولة الفلسطينية وحتى التجنيس في البلدان التي يعيش فيها اللاجئون بمعونات دولية، وهي الحلول التي كانت معروضة على ياسر عرفات من قبل ولم تقبل بها حماس.

ولكن أكثر ما كان لافتا للنظر في مقال هنية باللغة الإنجليزية التي يقول فيها، وفقا لما سبق، إن سلاما دائما وعادلا FAIR من الممكنات التى يمكن تحقيقها؛ وأرفق ذلك بعبارة موحية، وهي أنه بعد «هدنة» يتفق على مدتها، فإن الفرصة سوف تكون متاحة في «الأرض المقدسة» ـ وهو تعبير مشترك بين العرب واليهود ـ لإقامة السلام وقدرة اقتصادية powerhouse «لكل الشعوب السامية» في المنطقة. هذا التعبير ليس جديدا على ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقد استخدمه جيمي كارتر والسادات من قبل لخلق رابطة ما بين العرب والإسرائيليين، فهل كان ذلك ما يعنيه هنية، وأن الصراع الدامي الحالي ربما يفضي إلى وحدة سامية لا يغلبها غلاب؟!.