مغامرة غير محسوبة العواقب أو مؤامرة متعددة المسارب !

TT

عندما يثبت أن رصيد حزب الله من الصواريخ المختلفة الحجوم والأمدية يصل الى نحو «17» ألف صاروخ، فإن أول ما يتبادر الى الذهن هو: هل يا ترى ان إسرئيل التي تملك الفضاء اللبناني كله وتراقب الأراضي اللبنانية كلها من خلال شبكات التجسس المنتشرة في كل مكان وبواسطة التقنيات المتطورة والأقمار الاصطناعية لم تكتشف هذا ولم تعرفه إلا بعد هذه الحرب الأخيرة ..؟!

غير معقول على الإطلاق ان امتلاك حزب الله لكل هذه الأعداد والكميات من الصواريخ الإيرانية الصنع قد فاجأ إسرائيل ولهذا فإن السؤال الذي لا بد من البحث عن إجابة له هو: لماذا يا ترى غضَّ الإسرائيليون أنظارهم عن الحقيقة وبقوا ينتظرون ويراقبون الى ان وقعت الواقعة وبات المطلب الإسرائيلي بالإضافة الى إعادة الجنديين المختطفين يتركز على ضرورة ان يكون هناك شريط عازل في الجنوب اللبناني تملؤه قوات دولية «من المفضل أن تكون من حلف الأطلسي» ..؟!

ثم لماذا بقيت إسرائيل تكتفي بمراقبة الوضع عن بعد وصمتت طويلاً الى أن غدا حزب الله بكل هذا الحجم والى أن أصبح دولة مسلحة، لديها كل هذه القدرات الصاروخية، في دولة منزوعة السلاح ومنقسمة على نفسها بين من لا يزال يربط نفسه بالقاطرة السورية وبين من شرب «حليب السباع» بعد طول صبرٍ ومعاناة وأخذ يطالب بعد انسحاب الجيش السوري وأجهزته الاستخبارية بضرورة ترسيم الحدود وتبادل السفراء مع «الدولة الشقيقة» ..؟!

وهنا فإنه لا بد من العودة ثلاثين سنة الى الخلف فعشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت زهاء خمسة عشر عاماً والتي لا يزال جمرها يتأجج تحت الرماد، كانت الأسلحة

و«الجيوش» تتدفق على لبنان، ومن البر والبحر والجو، في حين أن إسرائيل كانت تتظاهر بأنها لا ترى ولا تسمع الى أن تورم هذا البلد الصغير بالوافدين من كل حدب وصوب والى ان نبتت الميليشيات الطائفية والحزبية في كل دسْكرٍ وضيعة من دساكره وضياعه .

لقد كان هدف إسرائيل، من إغماض عيونها عن كل ذلك الذي كان يجري، هو خلق معادلات عسكرية في بلد وصلت فيه التناقضات ذروتها وهو إشعال نيران الحرب الأهلية المدمرة ليأكل اللبنانيون والفلسطينيون بعضهم بعضاً وفوق ذلك لتغرق سوريا في الرمال اللبنانية المتحركة .. وهذا هو ما حصل وتحقق بالنتيجة.

لم تحرك إسرائيل ساكناً، فباستثناء ما يفرضه أمن مستوطناتها على الحدود مع الجنوب اللبناني الذي أصبح اسمه «فتح ـ لاند»، أي أرض «فتح» بقيت تضع يديها على عينيها وأذنيها وبقيت تراقب الموقف عن كثب بينما بقيت «جمهورية الفاكهاني» بزعامة أبو عمار تفرض نفسها دولة ليس داخل الدولة اللبنانية بل فوق الدولة اللبنانية وبقيت قوافل التدخل في الشأن اللبناني الداخلي تعبر كل منافذ لبنان وأجوائه وحدوده ومياهه الإقليمية قادمة من كل حدب وصوب وغدت بيروت قاعدة لكل حركات ومنظمات العنف والتطرف في كل الكرة الأرضية.

وهكذا وعندما أخذ لبنان يتحول الى جزر متطاحنة لجأت إسرائيل الى تزويد الحرب الأهلية بالصاعق الذي فجرها من خلال تزويد الميليشيات المسيحية، «القوات اللبنانية»، بما كانت بحاجة إليه من تدريب وأسلحة ومعدات لتشعر بالقوة التي تمكنها من مواجهة «القوات المشتركة»، قوات منظمة التحرير والأحزاب اليسارية والقومية اللبنانية ولتذهب الى القتال بلا تردد ولتكون هناك معادلة تؤهل هذه الحرب للإستمرار الى أطول فترة ممكنة.

وبهذا فقد حققت إسرائيل ما كانت تريده وتسعى إليه، فالحرب الأهلية وصلت ذروة اشتعالها ودخلت كل شارع ومنزل في لبنان كله، وسوريا أُغرقت في لبنان حتى عنقها والفلسطينيون نسوا قضيتهم وقفزوا من فوق مبرر وجود تنظيماتهم ومنظمتهم، منظمة التحرير، وإنشغلوا بشؤون وشجون «جمهورية الفاكهاني» التي أقاموها في بيروت الغربية وباتت إنتخابات البلديات اللبنانية بالنسبة إليهم أكثر أهمية من انتخابات البلديات في الضفة الغربية.

لم يدرك الفلسطينيون ما كانت تريده إسرائيل وتخطط إليه، أو أنهم كانوا يدركون هذا ولكنهم استمرأوا الإنشغال عن قضيتهم الأكثر تعقيداً بقضية أخرى أكثر سهولة وهكذا فقد بقوا يغرقون في حلمهم الوردي ويستمتعون بإقامة الدولة الكرتونية التي أقاموها فوق أنقاض الدولة اللبنانية وذلك الى ان حانت لحظة دفع الاستحقاق وبادر الإسرائيليون الى غزوهم الكاسح الذي أفرح معظم اللبنانيين ووصل الى قلب بيروت واقتلع منظمة التحرير من جذورها والهدف كان ولا يزال هو إلغاء الشريك الفلسطيني المفاوض وإعادة القضية الفلسطينية الى نقطة الصفر. وبالعودة الى قضية صواريخ حزب الله الإيرانية فإن ما لم يعد موضع شك على الإطلاق أن إسرائيل لم تكن غافلة ولا غائبة عندما كانت هذه الصواريخ تصل من إيران عبر سوريا الى جمهورية «حارة حريك» في الضاحية الجنوبية حيث كان يتم نقلها لاحقاً الى «نصر الله ـ لاند» التي حلَّت محل «فتح ـ لاند» والتي حولها الدعم السوري والإيراني وعلى غرار ما كان بالنسبة لـ«جمهورية الفاكهاني» الى دولة فوق الدولة اللبنانية.

لم تكن إسرائيل غافلة وهي بالتأكيد لم تكن مصابة بعمى البصر والبصيرة والثابت أنها كانت تراقب المشهد عن كثب وبكل دقائقه ولكنها لجأت الى الصمت لغرض في نفس يعقوب وهذا الغرض الذي في نفس يعقوب هو الإخلال بمعادلة الطائف الشهيرة التي انتشلت لبنان من الحرب الأهلية وهو خلق كل المبررات وتحيُّّن كل الفرص لاستعادة دورها الذي خسرته كشرطي للغرب وللولايات المتحدة في هذه المنطقة. لقد انهار الاتحــاد السوفياتي وخسرت إسرائيل دورها كخندق متقدم لمواجهة «التهديد» الشيوعي لهذه المنطقة وقد تأكدت ان وضعها لم يعد كما كان عندما منعها الأميركيون من المشاركة ولو بجندي واحد في حرب تحرير الكويت وأيضاً عندما منعت من المشاركة في حرب أفغانستان وحرب إسقاط صدام حسين.

ولعل ما زاد وضع إسرائيل سوءاً أن الدور الإيراني أخذ يبرز بقوة في هذه المنطقة في السنوات الأخيرة فحزب الله أصبح بالفعل هو الدولة اللبنانية حتى بعد انسحاب القوات السورية من لبنان وحركة «حماس» غدت بعد فوزها في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة هي السلطة الوطنية والميليشيات المذهبية الموالية لإيران في العراق غدت هي القوة الرئيسية وبهذا فقد بات نفوذ دولة آيات الله يمتد من حركة الحوثي في اليمن السعيد وحتى مارون الراس التي أعاد الجيش الإسرائيلي احتلالها في هذه الحرب الأخيرة.

إن محصلة هذا كله هو أن كل شيء أصبح جاهزاً كي تستعيد إسرائيل دورها المفقود وكي تفرض نفسها على معادلة المنطقة الجديدة مرة أخرى وهذا هو بالضبط الشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه كونداليزا رايس قبل زيارتها الأخيرة الى هذه المنطقة وهذا كله يعزز الشكوك بعملية اختطاف الجنديين الإسرائيليين التي أعطت المبرر الذي كان ينتظره الإسرائيليون على أحر من الجمر للقيام بما قاموا به ولتحقيق ما بدأوا بتحقيقه.

عندما يقول حزب الله أن إسرائيل كانت عاقدة العزم على القيام بعدوانها على لبنان وأنها كانت تستعد لهذه الحرب منذ فترة سابقة بعيدة فإنه ما كان عليه ان يوفر للإسرائيليين المبرر الذي يحتاجونه وأنه كان بإمكانه أن يتعامل مع قضية الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية بغير هذه الطريقة وبخاصة أنه لا يزال لديه جثمان الطيار الإسرائيلي رون أراد الذي كان بالإمكان ان يكون أساساً لصفقة التبادل المطلوبة وبدون حرب ولا دمار.

لم يفعل حزب الله هذا رغم أنه كان يعرف تمام المعرفة أن إسرائيل كانت تريد هذه الحرب، وأنها كانت قد اتخذت قرارها بهذا الخصوص والمؤسف حقاً أنه انساق وعلى حساب شعبه وبلده مع «الأجندة» الإيرانية والسورية وقام باختطاف الجنديين الإسرائيليين ليوفر المبرر الذي كان ينتظره الإسرائيليون لشن هذه الحرب المدمرة.

كان على حزب الله ان يتصرف بغير هذه الطريقة لو أنه ليس مجرد «بيدق» صغير على رقعة الشطرنج الإيرانية ـ السورية.. والآن وقد وقعت الفأس في الرأس ، كما يقال، فإن هذا الحزب التي تسبب في خراب لبنان سيكون أول الخاسرين وأن إسرائيل التي كانت مغلولة اليد سوف تستعيد دوراً إقليمياً كانت حُرمت منه وأن شرقاً أوسط جديداً سوف يتبلور لغير مصلحة العرب بسبب إما مغامرة غير محسوبة العواقب أو مؤامرة متعددة المسارب.