واشنطن تتحدى العالم ... والمخاض قادم عربيا وإسرائيليا

TT

معركة تدمير لبنان وفلسطين تقودها الولايات المتحدة الأميركية. الجيش الإسرائيلي يقوم بغاراته على بيروت وغزة بأوامر من البيت الأبيض. كان هذا الأمر قبل أسابيع ثلاثة استنتاجا. الآن اصبح حقيقة معلنة. حقيقة أعلنتها كونداليزا رايس في الأمم المتحدة، وابلغتها رسميا إلى رئيس وزراء لبنان وإلى رئيس وزراء إسرائيل، وتبجحت بها أمام كل الدول المجتمعة في مؤتمر روما. ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية منذ الحرب العالمية الثانية يعلن مجلس الأمن أنه يرفض وقف إطلاق النار في نزاع دولي. ولأول مرة تعلن دولة أنها تقود العمليات العسكرية لجيش دولة أخرى. تظن كونداليزا رايس أن هذا التدمير سيقود إلى ولادة «شرق أوسط جديد». المؤكد أنه سيقود إلى جبهة عالمية ضد بلادها.

ما يهمنا من هذا الوضع أمران: الأول أن مخاضا عربيا جديدا سيكون أمرا أكيدا. فمن يراقب حالة الغضب في الشارع العربي يدرك أن هذا المخاض قادم لا محالة. وضع الشارع العربي يكاد يشبه الوضع الذي كان قائما عام 1948. غضب لا بد أن تكون له نتائج مع كل من لا يدرك وجهة مسار التاريخ. وحالة الغضب هذه هي التي دفعت الملك عبد الله إلى أن «يحذر الولايات المتحدة، والجميع، من أنه إذا سقط خيار السلام نتيجة للغطرسة الإسرائيلية فلن يبقى سوى خيار الحرب، وعندها لا يعلم إلا الله ما ستشهد المنطقة من حروب ونزاعات لن يسلم من شرها أحد حتى الذين تدفعهم قوتهم العسكرية الآن إلى اللعب بالنار».

لم يحدث منذ حرب العام 1973، أن صدر موقف عربي بمثل هذا الوضوح، وبمثل هذا الحزم. لقد صدر هذا الموقف بعد لقاء قمة بين الملك عبد الله والرئيس المصري حسني مبارك. وبعد صدوره أعلن مبارك أنه لن يحارب إسرائيل. إن الموقفين تاريخيين، يتم إعلانهما في لحظة تاريخية، وكل موقف منهما ستكون له نتائجه في المخاض العربي المنتظر.

الأمر الثاني الذي يهمنا هنا، هو انكشاف علاقة التبعية بين واشنطن وإسرائيل. واشنطن تخطط والجيش الإسرائيلي ينفذ. كان هذا استنتاجا في الماضي وهو الآن حقيقة معلنة. يطرح الأمر على إسرائيل مسألة كبيرة، هل هي دولة أم «ثكنة»؟ هل هي دولة مستقلة أم هي دولة ذات «وظيفة» تقوم بها لصالح واشنطن؟ حسمت الوقائع الأمر لتقول إن إسرائيل هي مجرد «ثكنة»، وهي دولة ذات «وظيفة» عسكرية في المنطقة. وهذا لا بد أن يؤثر على علاقة الجمهور الإسرائيلي بدولته وحكومته. ولننتظر النتائج. إن هذا الجدل حول طبيعة إسرائيل جدل قديم. كثيرون تحدثوا عن الدولة ـ الثكنة، ولكن مع الزمن قال آخرون إن مجتمعا نما في إسرائيل ولا شك أن هذا النمو أحدث تغييرا في المجتمع والدولة. الآن يعود الأمر ليطرح من جديد، وليؤكد أن وجهة النظر الأولى عن الدولة «الثكنة»، اي ما يشبه دولة المرتزقة، تعود لتتصدر الصورة. وكثير من الإسرائيليين ربما يرعبهم هذا الاكتشاف، وربما يكون لهم موقف جديد من دولتهم.

يقول الكاتب الإسرائيلي ناحوم بارنباع (يديعوت أحرونوت) «إن صور قصف بيروت جعلت إسرائيل مجرمة حرب في نظر الإعلام الاوروبي». هل هذه هي بدايات استنتاجات إسرائيليين عن دولتهم؟ ربما.

إلى جانب هذه الأمور الكبيرة، والمهمة، هناك أمور تبدو صغيرة، تبرز في سياق الحرب ثم تتلاشى أمام دوي القنابل. ولكن لا بأس من التذكير بها. دلالاتها ربما تكون أكثر فاعلية.

ونبدأ برئيس الوزراء الإسرائيلي اولمرت.

ايهود اولمرت لا يستطيع أن يرى «لبنان». إنه يرى «حزب الله» فقط. وقف قبل ايام متباهيا أمام كونداليزا رايس وقال: إن إسرائيل ستواصل الحرب حتى تقضي على حزب الله. وقال: لا توجد عداوة بين إسرائيل والشعب اللبناني ولا بين إسرائيل وحكومة لبنان. ولكن مواطنين إسرائيليين هم الذين ردوا على هذا الكلام ونقضوه، مواطنان إسرائيليان نشروا إعلانا مدفوع الثمن في صحيفة هآرتس وقالوا فيه «إسرائيل ترتكب جرائم حرب واسعة. بلد يدمر. وأكثر من نصف مليون لاجئ. بلدات بأكملها تقتلع، وعشرات آلاف العائلات خربت بيوتها. مواطنون قتلى بالمئات، وآلاف المدنيين جرحى. لا يمكن لأية حجة تبرئة هذه الجرائم .... في لبنان أو في غزة. ينبغي وقف هذه الجرائم فورا». ولكن لا بد أن نلاحظ هنا أن كونداليزا رايس لم تقرأ الإعلان. أو ربما قرأته وضحكت أمام عدسات التلفزيون كما تفعل وهي تعلن رفض وقف إطلاق النار.

وننتقل إلى جبهة القتال، حيث الجنرال أوري آدم هو قائد المنطقة الشمالية في إسرائيل. اي أنه هو قائد المنطقة التي يخوض الجيش منها الحرب ضد لبنان عام 2006. في عام 1982 كان هناك جنرال «آدم» آخر يشارك في الحرب ضد لبنان تحت قيادة آرييل شارون. وصل هذا الجنرال إلى بلدة الدامور، وقصفها ودمرها واحتلها، وحين خرج إلى الشارع متباهيا ليسير أمام جنوده ويدعوهم للتقدم إلى الأمام، وجد نفسه وجها لوجه أمام مجموعة من الأشبال. أحد هؤلاء الأشبال، وعمره أربعة عشر عاما، أطلق النار على الجنرال آدم وأرداه قتيلا. الجنرال آدم الذي قتل عام 1982 هو والد الجنرال الذي يقود الهجوم على لبنان الآن. وهو يتذكر مقتل والده ويقول لصحيفة جيروزاليم بوست «إن صورة والده ترافقه في المعارك». وربما لذلك يقود الجنرال آدم الابن المعارك من «مخبئه تحت الأرض في مدينة صفد». هذا ما تقوله جيروزالم بوست.

الجنرال آدم الأب، وحين احتل الدامور، كان يبذل واحدة من المحاولات الكثيرة التي بذلها الجيش الإسرائيلي آنذاك، للوصول إلى مدينة بيروت عبر الطريق الساحلي. ولكن عقبة كأداء وقفت أمام تقدم الجيش الإسرائيلي، وكان اسم تلك العقبة «مثلث خلده». اللبنانيون يعرفون «مثلث خلده» جيدا، وإذا قلت لأي لبناني أن مثلث خلده وقف عقبة كأداء أمام تقدم الجيش الإسرائيلي لرفع حاجبيه دهشة، فمثلث خلده ليس أكثر من دائرة صغيرة تتفرع منها ثلاثة طرق، ولكن هذا الدوار الصغير مع تفرعاته الثلاثة صنع ملحمة وقف تقدم الجيش الإسرائيلي نحو بيروت خمسة أيام على الأقل.

ولكن من الذي صنع تلك المعجزة؟ إنه الضابط الفلسطيني العقيد عبد الله صيام. رجل قصير نحيل، يوحي إليك بكل شيء إلا بالقوة. ولكن داخل ذلك الجسم القصير النحيل كانت تكمن إرادة جبارة. كلف العقيد صيام أن يتولى السيطرة على مثلث خلده، فذهب إلى هناك ومعه ما لا يزيد عن أربعين شابا نصفهم من الفلسطينيين ونصفهم من اللبنانيين، ووزعهم على المنازل المتواجدة هناك على جانبي الطريق، وهذه القوة الصغيرة بقيادة العقيد عبد الله صيام هي التي أوقفت تقدم الجيش الإسرائيلي بأكمله.

قابلت عبد الله صيام في تلك اليام، وكانت إسرائيل قد ألقت مناشير على مدينة بيروت اثارت الهلع في النفوس، وتولد عنها سيل جارف من السيارات التي غادرت بيروت الغربية إلى المنطقة الشرقية حيث السيطرة للكتائب اللبنانية. نشرت الصحف في اليوم التالي صور ذلك السيل الجارف من السيارات الهاربة بركابها. ولكنها نشرت بعد خمسة أيام أخرى، الصورة نفسها، إنما بالاتجاه المعاكس، فقد عاد الهاربون إلى بيروت الغربية نفسها، بعد أن رأوا مدينتهم تدمر بالمدفعية والطائرات والبوارج. سألت عبد الله صيام: ما هو تأثير الحرب النفسية الإسرائيلية عليك؟ رد مستغربا: أية حرب نفسية؟ قلت له: المناشير وهرب الناس وحديث الإذاعات وصور التلفزيونات. قال: لم أقرأ المناشير، وأنا لا أسمع الإذاعات، ولا أشاهد التلفزيون، ولذلك فإن حرب إسرائيل النفسية لا تؤثر علي. وصمت قليلا ثم أضاف: إسمع، حين تبدأ المعركة أغلق حتى جهاز الإرسال بيني وبين القيادة، لا أحب أن أتلقى أمرا بالتوقف أو التراجع. سألته: إلى متى تستطيع أن تصمد؟ قال: الصمود هنا يمكن أن يكون طويلا، ولكن الجيش الإسرائيلي بدأ حركة التفاف علينا عبر الجبل (الشوف)، وحين ينجز عملية الالتفاف يسقط موقعنا عسكريا، وحتى ذلك الحين فإن صمودنا مضمون. سألته: كيف تحمي نفسك من القصف، إنهم يتنصتون على الاتصالات الهاتفية واللاسلكية، ويحددون من خلال ذلك مواقعكم، كيف تتجنب ذلك؟ أجاب: بعمل بسيط. في الطريق إلى المعركة يتم إغلاق كل أنواع الهواتف والاتصالات، فنصبح بالنسبة إليهم هدفا أعمى.

حين أنجزت إسرائيل التفافها عبر الجبل، ركب عبد الله صيام سيارته وذهب إلى مثلث خلده ليكون مع مقاتليه، وهو الذي يعرف أكثر من غيره أن الموقع قد سقط عسكريا. وفي الطريق أجرى من سيارته اتصالا هاتفيا مع مقاتليه، والتقطت البوارج الاتصال، وصوبت نحو سيارته، واستشهد العقيد عبد الله صيام. لماذا أجرى الاتصال وهو يعرف النتائج؟

كان مثلث خلده موقعا من مواقع عدة، شهدت صمود المقاتلين عند تخوم بيروت عام 1982. الآن .... وفي العام 2006، يصمد المقاتلون اللبنانيون عند تخوم حدود لبنان، ويواجهون هجمة الجيش الإسرائيلي بأكمله. يفعلون أكثر بكثير مما فعل العقيد عبد الله صيام. ولكن فخر عبد الله صيام أنه كان بداية طريق الصمود، وعلى تراثه وتراث أمثاله يبني المقاتلون الآن الملحمة الأكبر. إنه الشهيد الذي ينبثق ويتجدد في كل مكان من لبنان.

.. ولكن كونداليزا رايس لم تعرف أبدا من هو عبد الله صيام.