شرق أوسط بصيغة عربية

TT

ما يحدث في لبنان يثبت أن حدود العجز قد تجاوزت إطار الدولة القطرية، وما مساندة السعودية للحكومة اللبنانية وشعبها، ومناشدة لبنان باقي الدول للوقوف معه في محنته، إلا دليل على أهمية التعاون التام بين الدول العربية بالمنطق العقلي السياسي الحديث، فمشاكل من نوع الأمن الخارجي، أو إذا أردنا التوسع وترك مسألة الحروب جانباً فتحدثنا عن تحديات التنمية الاقتصادية أو الثقافية، أو ترسيخ الديمقراطية لرأينا أن لا مجال لحلها سوى بتضمينها واقعاً أبعد من إمكانات الدولة القطرية، فهل مجالس التعاون نزوع كافٍ للحل؟ أقول، إنها خطوة ولكنها لا تفي، فالوحدة الأوروبية ذات التاريخ الدموي بين دول لا يجمع بينها رابط مشترك من لغة أو ثقافة لم تكتف من ضم دولها بمجرد تواقيع على معاهدة توحّد والسلام، ولكنها فتحت حدودها فيما بينها لبضائعها ورساميلها وأفرادها وثقافاتها.

طبيعة مجتمعاتنا غير المستقرة والتي تحمل في ملامحها ذلك الطابع الانتقالي السريع، والتكاثر الديمغرافي، والوعي غير الناضج، عادة ما تتفاقم مطالبها الاجتماعية إلى حد تصبح معه الدولة عاجزة وفي معظم الأحيان عن التلبية، مما يقود بالتبعية إلى تحول المجتمع إلى أداة متمردة على الدولة إما بشكل معلن أو غير معلن، بينما العقبة الأم تكمن في نمط القيادة الاجتماعية، والعلاقة بين السلطة وبين المجتمع ككل، وفي استيعاب الأفراد للهوامش الأذكى في التعامل مع ظروفهم المستجدة، وعلى ما يبدو أن النخب العربية قد فشلت بالفعل في تحديث نفسها ورؤاها والقفز فوق نزاعاتها الذاتية والطائفية، فلم تصل في مستواها إلى مشارف المسؤولية العمومية التي تقع على عاتقها، ولأن المعرفة تتجدد، وعندما تتوقف تصبح غير فاعلة عملياً في فهم واقعها الاجتماعي والتاريخي فهماً يدفع للتغيير، فإننا نعترف بأن معرفتنا السابقة لم يعد في مقدورها أن تقدم وسائل للتحكم في واقعنا، أو لنقل للدفع به إلى الأمام، مما يفسر النمو المتزايد للفكر النقدي في المجتمع العربي في محاولات من أصحابه لإعادة النظر في المسبّقات الفكرية والمعرفية أملاً في الوصول إلى وصفة للخلاص من معاناة مستمرة. لو أخذنا التجربة السوفياتية كمثال لوجدنا كيف أنها حملت بذور الإفلاس في ذاتها، في تناقض تصورها للنظام الاشتراكي، فحين أدخلت البعد الاجتماعي والإنساني في التحليل الاقتصادي من أجل تحرير الإنسان، وتمكينه من السيطرة على مصيره وحريته، وصلت درجة من الإغراق في تخفيض النزعة الاجتماعية إلى اقتصادية بحتة ثم التقوقع داخلها لا نجاة معها، إلى أن انتهى النظام الاقتصادي السوفياتي إلى الانحطاط الاقتصادي بالمطلق، فهل يعني هذا انتصاراً للرأسمالية الليبرالية؟ أزعم أن الصراع الأميركي ـ السوفياتي في حربه الباردة كان يشكل غطاء للأزمة الليبرالية، ومع زوال هذا الصراع تكشفت الليبرالية على حقيقتها كنظام عالمي فتح الجبهة هذه المرة، ولكن بين الشمال والجنوب، فحشر ثلاثة أرباع العالم في معضلة تخلّف صعب على دوله الخروج من خندقها، فافتضح التحدي الأساسي، وكان في مواجهة أزمة التنمية في دول العالم النامي، فهل استطاع النظام الليبرالي الراهن بقيادته السياسية وإمكاناته الاقتصادية التغلب على معوقات النمو والتنمية في الجنوب بحلول ليبرالية؟ أعتقد أن الإجابة لا تحتاج إلى بحث مطوّل، فنظرة خاطفة لدولنا على الأقل تفي بألف جواب، فكل ما قام به هذا النظام يتلخص أكثره في مجموعة إجراءات طبقها صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية، التي كانت أصلاً وراء كارثة التنمية والديون في البلدان المعنية، وعلى العموم، دائماً ما تخلق الليبرالية الرأسمالية ـ قبل الاتحاد السوفياتي وبعده ـ قوى إما أن تكون مهمشة معادية لتوسعها، أو مدانة لارتباطها بالنظريات الليبرالية المتطرفة. والرأي اليوم أنه لا بد من إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد تدخل في منظومته دول الجنوب، بما فيها الدول العربية، نظام لا يتقيد بالبديل الذي يسمح للدول الثماني الأكثر تقدماً وتصنعاً بالتحكم في مصائر العالم، وهو لا يعني أننا سنضع أمام الرأسمالية نظاماً آخر، ولكننا بحاجة إلى تحليل عميق للرأسمالية كنظام عالمي وليس كنظام قطري، فليس هناك من خيار للحياة الكريمة سوى في إعادة ترتيب المواقع الاقتصادية وتيارات التبادل الاقتصادي العالمية، ولكن، وأثناء اهتمامنا بهذه النهضة الاقتصادية، ينبغي أن يسير في محاذاتها اهتمام أكبر بتطور القوى الإنتاجية المحلية والتأمين الاستهلاكي للسكان.

جوهر استراتيجية الدول الصناعية الكبرى ليس في تهميش عالمنا على إطلاقه، ولكن في تقسيم دوله واحتوائه، بمعنى كسر وحدته إن وجدت، وإن كان هناك تهميش حاصل فهو للبلدان التي ليس لديها موارد أولية لها ثقلها في الميزان الاقتصادي، أي أن تعدد الأجندات، إنما يكون حسب المنطقة وإمكاناتها، والمصالح المختلفة للدول الصناعية فيها، وعليه، فنصيب العالم العربي من الملاحقة والمراقبة، ومن التدخل الداخلي في شؤونه قطراً قطراً أكبر من تجنيبه أو نسيانه، ولن يكون علينا نحن العرب، للخروج من عباءة هذه المتابعة المنظمة المنهجية غير خلق مبادرات وقنوات اتصال وتعاون جدّي فيما بين دولنا، حكومات وشعوب، حتى يكون لنا بعض الحظ في المشاركة في تقرير ما يجري على أرضنا، من أشكال حكم سياسي وتطور اقتصادي ومعرفي ثقافي، كلمة أخيرة: لن يصبح ذلك مشروعاً ممكناً ومقبولاً إلا بقدر وعي الدول العربية لمفهوم الديمقراطية فكراً وممارسة.