اهتراء نظرية الأمن الإسرائيلي

TT

دخلت الحرب منطق التسوية السياسية. لكن القصف الجوي والصاروخي المتبادل قد يستمر أياما ثقيلة أخرى، ريثما تنسق السنيورة كوندوليزا مع أولمرت وضباطه خطة مشتركة توافق عليها حكومة السنيورة اللبنانية، ويصدرها مجلس الأمن بقرار دولي.

في انتظار بلورة تفاصيل الخطة، رأيت أن أعود الى سبب تاريخي من اسباب الانقلاب المفاجئ في الموقف الاميركي والتراجع الاسرائيلي. وكلاهما حدا ببوش الى العمل بنصيحة زائر البيت الأبيض توني بلير، وتسفير كوندوليزا الى المنطقة، للبحث في شروط وقف اطلاق النار.

هذا السبب الأساسي استطيع ان ألخصه بعبارة واحدة: اهتراء نظرية الأمن الاسرائيلي. وأبادر الى القول سلفا ان من السذاجة اعتبار الأمن الاسرائيلي مجرد ضحية لصاروخ كاتيوشا، وانما هو حاصل مجموعة تراكمات استراتيجية واجتماعية ونفسية سجلتها تطورات الحياة الاسرائيلية في غضون الاعوام الثلاثين الاخيرة.

الأمن بقرة مقدسة في اسرائيل لا يمكن مسها او التضحية بها. استراتيجية اسرائيل منذ ولدت تقوم على تجنيب الداخل الاسرائيلي أي هجوم خارجي. حروب اسرائيل كلها دارت بنقلها فورا الى ارض اعدائها. هاجس الامن فرض توفير قوة عسكرية رادعة للجيوش والأنظمة العربية. وتمت حماية الفضاء الاسرائيلي بتطوير سلاح الجو والدفاع الجوي كقوة هجومية ودفاعية.

رقعة اسرائيل الضيقة طولا وعرضا (عشرون ألف كيلومتر مربع) استلزمت اللجوء الى اساليب عسكرية مختلفة، في مقدمتها الحرب الوقائية، والحرب المفاجئة الخاطفة. وكلاهما حرب قصيرة الأمد تستغرق أياما معدودات، لعدم قدرة اسرائيل، لأسباب تعبوية واقتصادية، على خوض حرب طويلة الأمد.

خلال هذه الأيام المعدودات، يتم الحسم العسكري بتحطيم القدرة الهجومية والدفاعية العربية، وقلب أي نصر عربي أولي، الى نصر اسرائيلي، باحتلال مزيد من الأرض، أو تطويق قوات، ثم اللجوء الى اميركا لتتولى عن طريق مجلس الأمن استصدار اتفاق لوقف اطلاق النار يكون العرب راغبين فيه اكثر من رغبة اسرائيل. لو ان الجيوش النظامية العربية استطاعت ادامة الحرب اسابيع او اشهرا، لانهارت الحرب الخاطفة والسريعة.

ما هي هذه العوامل المتراكمة التي ادت الى اهتراء استراتيجية الأمن الإسرائيلي؟

شكلت المؤسسة العسكرية والمخابراتية الأعمدة الصلبة للحلم الصهيوني التوراتي (اسرائيل من النيل الى الفرات). الجيش رمز الوحدة الوطنية. بوتقة الصهر للثقافات والاثنيات اليهودية المستوردة. الجيش عسكر الحياة المدنية. فهو جيش الشعب المجند (ثلاث سنوات للرجال وسنتان للنساء). يظل الاسرائيلي في الاحتياط الذي يستدعى للتدريب سنويا على مدى ثلاثين عاما.

لكن الثفة المطلقة بالجيش اهتزت منذ حرب 1973. فقد تم تدمير سلاح الجو الاسرائيلي وهو محلق في الجو بصاروخ سام. واظهرت المفاجأة ان بالامكان اختراق الداخل الاسرائيلي (الدبابات السورية نزلت الى الجليل الاعلى في تلك الحرب).

احتفظ الجيش بتفوق التدريب النوعي للمقاتل الاسرائيلي ثم اللجوء الى القوة النارية الهائلة التي تضع حدا لشجاعة التحمل. هناك ايضا سرعة استدعاء الاحتياطي الذي ضمن التفوق العددي على الفرق القتالية التي استطاعت مصر وسورية زجها في المعركة. وأخيرا، الاستخدام الذكي للمراقبة الالكترونية سلما، وللتشويش على الرادارات العربية حربا.

على ارض لبنان، انتهى حلم التوسع التوراتي. تماما كما اميركا في العراق، فقد حققت اسرائيل النصر، لكن لم تستطع ان تحافظ على الارض. قاد السوريون واللبنانيون والفلسطينيون «حرب استنزاف» ناجحة، اضطرت اسرائيل تحت وطأتها الى الانسحاب من بيروت والوسط والجبل، الى الجنوب (1985). ثم انسحبت عام 2000 من الجنوب

تحت وطأة ضربات «حزب الله». معركتا مارون الراس وبنت جبيل تثبتان للعرب بأن بالامكان تحقيق تكافؤ في التدريب النوعي، اذا ما تحولت العقيدة القتالية العربية من اعتماد «الكمية» الى «النوعية».

صواريخ العراق هزت عمليا نظرية الامن الداخلي الاسرائيلي. صاروخ الكاتيوشا بدد الحلم نهائيا باسرائيل محاربة وراء الحدود وهي في مأمن داخلي مطمئن. منذ حرب الخليج، تراود الاسرائيليين الشكوك في «اسرائيل القلعة»، وفي جيش لم يستطع ان يحقق النصر الاستراتيجي الساحق.

منذ ثلاثة عقود، هناك ضعف ملحوظ ومتزايد في الروح المعنوية التي سكنت جيل الرواد الصهاينة. لم يعد الجيل الجديد راغبا في القتال. يقول المؤرخ الاسرائيلي بني موريس: «ما هو جيد للفرد، ليس بجيد للمجموع. الاسرائيلي يريد اولا فيلا وسيارة». التطوع والتجنيد في الجيش مستمران، لكن الجيش اصبح حرفة وليس مهمة ذات رسالة.

في المقابل، طورت الأصوليات العربية المسلحة (حماس. حزب الله. الجهاد) مبدأ اسميه: «الاشتباك المستمر» مع العدو. تمت عسكرة الحياة الفلسطينية، لكن بالاستغناء عن اعتماد القواعد العسكرية الثابتة والظاهرة التي يمكن قصفها. قواعد جبريل في لبنان باتت «موضة» قديمة. فاجأ «حزب الله» اسرائيل بأنه لا يملك قواعد ومعسكرات ثابتة. فهو يعمل سياسيا وعسكريا بالاندماج الكامل في نسيج المجتمع الشيعي، الأمر الذي تذرعت به اسرائيل للقصف الوحشي والهمجي للمدنيين. اصبح المدنيون في لبنان واسرائيل رهائن وأسرى لدى المتحاربين.

غير ان مبدأ «الاشتباك المستمر» يعاني من ثغرات تجعل من المبكر ومن المبالغة القول انه كفيل بانهاء اسرائيل كقوة وكدولة. نعم، استخدام القوة النارية الهائلة يندرج في صميم استراتيجية الأمن الاسرائيلية التي تعتبر كل معركة وكل حرب تخوضهما اسرائيل هما معركتها وحربها الاخيرة. وهكذا، فقصف المدنيين بهذه الوحشية هو في الواقع تعبير عن الخوف والجبن والضعف.

زودت ايران حزبها في لبنان بصواريخ أرض ـ أرض، لكنها نسيت تزويده بمنظومة صواريخ مضادة للطيران على ارتفاع منخفض، وهي صواريخ يمكن اطلاقها من كتف مقاتل واحد. لعل لبنان يملك الحق الشرعي الآن في تزويد نفسه بمنظومة دفاع جوي متطورة، لردع السيطرة المطلقة لسلاح الجو الاسرائيلي على الاجواء.

بلا دخول في تفاصيل مشروع التسوية الذي ما زال غامضا، عند كتابة هذه الكلمات، اقول ان وقف اطلاق النار سيقيم شكلا من اشكال «توازن الرعب» بين لبنان واسرائيل: سوف تفكر ايران الف مرة قبل تحريك «حزب الله» لخدمة اغراضها، بحجة تحرير أسرى لا يزيد عددهم عن ثلاثة او اربعة معتقلين. واسرائيل ستعد على اصابعها العشر، قبل اختراق الحدود، وضرب «حزب الله»، خوفا من خمسة اطنان من المتفجرات، اثبت انه قادر على صبها فوق رأسها يوميا، على الرغم من عنفوان مظلتها الجوية الضاربة.

هل القوة الدولية المقترحة كافية للفصل بين المتحاربين؟

من حيث المبدأ، القوة الدولية تحد من استمرار الاشتباك مع العدو. لكن السؤال يفرض قبل الجواب عنه، سؤالا ليس بعابر:

ـ كم من بلد عربي بات محتلا، أو مرشحا للاحتلال بقوات دولية، أوروبية أو أميركية، بحجة مكافحة «الارهاب»، أو بحجة التمهيد لولادة «شرق أوسط» أميركي جديد، حفر حفرا بالحربة الاسرائيلية؟