بين قانا وهوانا ..

TT

وكأننا محكومون أبدا بهذا المسلسل المفجع من الدم والمجازر والصراخ وهيمنة العقل العسكري على كل شيء.

ها نحن مرة أخرى أمام حفلة موت، وصور جديدة، صور أطفال ممزقين بقنابل الحرب الاسرائيلية، صور رماد وغبار، وألم ووجع يخنق مسامات الالتهاء بالحياة الطبيعية، شأن خلق الله الباقين.

هل اصبح الحزن مهنتنا؟ كما قال العصفور الاحدب محمد الماغوط ؟

قانا وهوانا، وما أدراك ما قانا، وكيف ضاع هوانا ؟!

مرة أخرى، نعيد لغة الاستنكار والشجب والادانة، مع زيادة كمية ونوعية هتافات الشوارع العربية، وازدهار «الرغي» عن همجية اسرائيل ووحشية آلتها الحربية، التي لا تفرق بين اطفال مساكين ونساء عزل، اختبأوا لأنهم لم يجدوا ثمن تذكرة التاكسي الذي يقلهم الى «صور» لربما ابتعدوا قليلا عن فم الخطر، حسب تقارير صحافية.

ما ذنب هؤلاء الاطفال والنساء والبؤساء؟ هم ليسوا من قوات حزب الله، ولم يرفعوا قبضاتهم العالية في السماء امام سماحة «السيد» وهم يهتفون له، ولولي أمر المسلمين المرشد خامنئي، «دام ظله»، متوشحين بالاسود، ناطقة ملامحهم بالطاعة الآلية، هذه الملامح المنقوعة بحناء الطهورية والوثوقية الثورية، الآتية من ارشادات وهداية من هو محمي بوهج الإلهام و" الوعي الالهي "!

ما ذنب اطفال ملجأ قانا ؟! هم لم يخطفوا الجنديين الاسرائيليين، ويخترقوا الخط الازرق الدولي في عملية باغتت الجميع، وجعلت رئيس الحكومة «العروبي» فؤاد السنيورة، يقول نهار ذلك اليوم: «لسنا مسؤولين عن هذه العملية، ولا علم لنا بها»، لكن المقدور وقع، وشهوة الانتقام الاسرائيلية اشتعلت، لتحصد الامان من قرى لبنان وتزرع محلها عيدان الألم، وشتائل الموت.

مرارا نقول: ما ذنب هؤلاء الصغار؟ ما جريرتهم، وهم مختبؤن مثل الصيصان الصغيرة تحت سقوف المبنى الهزيل، لتطبق عليهم سحابة موت قاتم، وهم يحضنون بعضهم .. الصغار، يا للصغار!

المحبط، أنه وبعد هذه المعمودية الدموية، لم يلح الى الآن فجر الحل، لم نر من يقلب صفحة الحرب، رغم انه من المؤكد صدور قرار بوقف اطلاق النار بشكل اسرع بعد مجزرة قانا، وما سيعقب ذلك من تشكيل قوة دولية، قد تأخذ بعض الوقت، غير ان ما نعنيه هنا، شيء ابعد من هذه «الضمادة» المؤقتة، كما يعبر بذكاء وخبرة (تيمور غوكسل) المستشار السابق للأمم المتحدة في لبنان.

لا نضمن بعد أن يتدخل اطفائيو العالم لإخماد الحريق اللبناني، ان تعاود النار اشتعالها، بعد دورة هدوء آخر، يعقبه سجال لبناني داخلي حول حزب الله وسلاحه.. ثم ندخل في فصل «مقاومة» ومناخه من جديد.. وهكذا.

دعونا ننشط الذاكرة قليلا حتى لا نغرق في تفاصيل اللحظة، وحتى نضع الامور في سياقها الطبيعي، وكما جرت بالضبط، لأنه لا يمكن ان نقفز الى النتيجة بدون معرفة السبب، وكأن النتيجة هكذا وجدت من غير مقدمات مهدت لها.

لن نعود كثيرا الى الوراء، ولكن لا بأس, من باب التمهيد لهذا التذكير, من الاشارة الى ان مسألة وجود اسرائيل كدولة في المنطقة حقيقة، فهي دولة معترف بها من قبل الامم المتحدة، ودولة من حيث الاعلان المعاصر عنها، اقدم من بعض الدول، ودولة أقرت الدول العربية، وسوريا منها، أنها لا تريد «رميها في البحر»، وأنها تعترف بها، ولكنها تريد التفاوض معها حول بعض اراضيها المحتلة، كما هو مقتضى الموافقة على مؤتمر مدريد الشهير (نوفمبر1991).

ربما لا تعجب هذه الحقيقة دعاة الثورات اللانهائية، ولكن عدم اعجابهم بها لن يغير من الامر شيئا، ومن لديه قدرة على القاء اسرائيل في البحر فليفعل! ويكفي نفاقا للشارع العربي، ودغدغة لجراح الكرامة السليبة، هذه الكرامة التي لا ندري لماذا لم تجعل مجتمعانا العربية قوية بالمعنى العميق والشامل لمفهوم القوة، عوض ان يكون التعبير التقليدي عن الكرامة هو في تشجيع نماذج ارتدادية لا تحفل بالحياة قدر تمجيدها للموت وباذلي النفوس!.

التذكير الذي نعنيه هنا بسياق الامور، هو أن الكفاح الحضاري ضد اسرائيل، واسترداد الحقوق العربية السليبة منها، قد تسنى اكثر من مرة ، ولكن بلا فائدة.

دعونا نذكر فقط بخلفيات مجزرة قانا الاولى التي وقعت في نيسان 1996 والتي تم على ضوئها الاتفاق على ما سمي حينها بـ«تفاهم نيسان»، الذي جعل المدنيين من الطرفين خارج النيران.

في 11 ابريل (نيسان) عام 1996 اسرائيل تبدأ عملية «عناقيد الغضب» وتشن غارات واسعة على قواعد لحزب الله في الجنوب اللبناني والبقاع وضواحي بيروت الجنوبية. لكن هناك اشياء حصلت قبل هذا الهجوم المعروف، فقبل يومين من تاريخ بدء «عناقيد الغضب» الاسرائيلي، وتحديدا في الثامن من ابريل، عبوة اسرائيلية ناسفة في بلدة «برعشيت» تقتل ثلاثة اطفال ليرد حزب الله بقصف الجليل في اليوم الثاني. وفي صباح 11 ابريل الجيش الاسرائيلي يشن «عناقيد الغضب» لتقع في 18 من الشهر مجزرة قانا الاولى في مقر القوة الفيجية ، ويحصل رأي عام دولي ضاغط، ويتولد من ذلك تفاهم نيسان .

وفي مقدمات الهجوم الاسرائيلي الكبير والمدمر على لبنان حينها، أن اسرائيل شنت عام 1993 حربا من أجل حماية «الجليل» كما قالت ، شنت فيها مئات الغارات الجوية تحت عنوان عملية «تصفية الحساب»، وقال رابين حينها انه يشن هذه الحرب من اجل حماية شمال اسرائيل من كاتيوشا حزب الله، العملية لم تنجح في هدفها، وفي يوليو من نفس العام حصل اتفاق على تحييد بيروت في مقابل تحييد نهاريا.

لكن الصورة انعكست في يوليو 2006 ، فكان حزب الله هو مشعل شرارة المواجهة باختطافه الجنديين الاسرائيليين وقتله اخرين، وحصلت الحرب الاخيرة. وهكذا فالناس معلقون بين حزب الله واسرائيل مثل بندول الساعة تكة هنا وتكة هناك.

هل من حل ؟ وهل يمكن ان تصغي اسرائيل لدعاة الاستقرار والسلام؟

الحال ان اسرائيل، ورغم تشربها للهاجس الامني، الا ان قناتها السياسية تلين احيانا، ففي أول ابريل من عام 1998 صوتت الحكومة المصغرة في اسرائيل على القبول بالقرار الدولي (425)، والذي صدر بعد عملية «الليطاني» سنة 1973 حينما غزت اسرائيل جنوب لبنان وصولا الى نهر الليطاني.

الحكومة الاسرائيلية، وعلى غير عادتها في عدم الاحتفاء بالقرارات الدولية، بسبب التغطية الاميركية لها، قررت في 1998 ان تطبق القرار الدولي، اذا وافقت الحكومة اللبنانية على ضمان أمن الحدود الشمالية لاسرائيل، لكن هذه الفرصة، او بالاقل رائحة الفرصة للاستقرار، والهدوء، وبسط هيمنة الدولة اللبنانية، الذي هو جوهر مشروع السنيورة للانقاذ، ومطلب الدول العربية الساعية للحل: السعودية ومصر والاردن، قوبلت حينها بالرفض واللامبالاة من قبل حكومة لبنان، في الزمن السوري طبعا، ومعها رفضت سوريا ايضا.

ان تاريخنا في الاضرار بأنفسنا محبط، اسرائيل دولة قامت على حماية نفسها بالقوة العسكرية، وتعتقد ان هذا هو الذي يخيف العرب منها، ولذلك فهي ايضا جزء أصيل من مرض ومعاناة هذه البقعة من العالم، اسرائيل محكومة بعلل المنطقة، ولكنها تعرف حدودها، أو اصبحت تعرف، وصارت حريصة على حماية معتزلها، تريد «غيتو» يخيف ويرهب، وليس الغيتو الالماني، المستباح والمهان.

اسرائيل معلولة بهذا المعنى، هذا صحيح ، لكن ماذا عنا نحن؟ لقد فوتنا فرصا كثيرة على انفسنا من اجل التقاط الانفاس، والالتفات للبناء، في حين أن اسرائيل، ورغم حروبها وشعورها بأنها مستفرة أمنيا على الدوام، لم تفعل ذلك، بل حافظت على ازدهارها الاقتصادي والتنموي، أما نحن فكلما اخذنا قسطا زمنيا للهدوء، والعيش بشكل طبيعي، اطلت علينا, تحت اي يافطة, أزمة «كرامة» من جديد، تلغي اي حديث آخر.

من ثورة عبد الناصر 52 الى حرب 67 الى حرب 73 الى اجتياح لبنان 82 الى غزو صدام للكويت 90 الى نطحة اسامة بن لادن لاميركا 2001 الى، نطحة نصر الله الاخيرة لاسرائيل..

عشاريات من الحروب، والتوتير، ينقمع المستقبل فيها، ويمتشق السلاح الصوتي، وتسود ادبيات النضال او «الجهاد» وينخرط الجميع في شروط المعركة، ولا مكان لمن يحايد، لا تحايد! فإما مع الاهل وإما مع الغريب.

طيب! والسلام، والاقتصاد، والتعليم، والتطوير، وبناء العلاقات الناجحة مع الدول، وخلق فرص العمل، وبناء الانسان والاستثمار فيه.. بكلمة: والحياة؟! كل ذلك مؤجل، وهامشي، وملوث، يخدش صفاء القضية.

المشكلة أن تتكرر عشارية القلق هذه بعد حين، وتذهب كل هذه الدماء البريئة، والخراب الكبير، والضرر الفادح بصورة لبنان، ومن ورائها صورة العربي، ناهيك مما صرفه العرب من رصيد سياسي ومالي، من اجل «إنهاء» المشكلة، لا تأجليها، ان يتبخر كل هذا، ونعود للمربع الاول، بانتظار قانا ثالثة، او غير قانا... وحينها ستضيع آمالنا بين قانا وهوانا..

[email protected]