هل تبدأ محاولة جديدة للحل؟

TT

لو كان العالم منطقيا، والعالم هنا هو اميركا، لاتخذ من التدهور المريع، الذي شمل الشرق الاوسط بأسره، حافزا قويا للبدء في فتح ملفات الازمات المترابطة، والمقصود بفتح الملفات.. هو ان تفتح باتجاه الحل.. وليس باتجاه الحسم.

وبين الحل والحسم، بحور من دماء، وساحات مترامية من الدمار، وتهديد لحاضر ومستقبل شعوب ومجتمعات ونظم بأسرها.

واذا ما نظرنا الى دائرتنا الأقرب، وهي الدائرة الفلسطينية اللبنانية، واعدنا فتح الملفات المغلقة منذ سنين، فإننا نرى ان هنالك فرصا للحل اوسع بكثير من فرص التفجير، وان تكلفة اي حل.. اقل بكثير من كلفة فتح المعارك والجري وراء وهم حسم المواقف والسياسات بالقوة.

* لبنان

* يفضل الاميركيون، عزل كل مشكلة عن الاخرى، رغم الترابط الموضوعي بينها. فمن البداية، وهم يشاطرون الاسرائيليين كراهية الحلول الجماعية، ولقد كيف العرب انفسهم مع هذه الرغبة الاميركية حتى انهم اقلعوا عن استخدام مصطلح كانوا يرددونه في كثير من المراحل الا وهو.. «توحيد المسارات او تنسيقها». وهنا، وبعد الخروج السوري من لبنان انصرف الجهد الاميركي الى فرض حل على هذا البلد الجريح، حلٍ لبناني خالص، لا تشوبه خطوط سورية ، والحل على هذه الصورة يعني ضمان الهدوء الدائم علي الحدود، مع اسرائيل.

كان باستطاعة الولايات المتحددة واسرائيل، في وقت مبكر ان يغلقا الملف اللبناني، بثمن بسيط، هو اطلاق سراح المعتقلين الذين امضوا عقودا داخل السجون الاسرائيلية، ولا خطر من اي نوع يترتب على ذلك، ثم مصادرة بقرة جحا.. التي هي مزارع شبعا بالتخلص منها، مع الدخول في ترتيبات ترسيم الحدود.. الخ.

لو فعل الاميركيون ذلك، لما تطورت الأمور لاحقا على النحو الذي تراه الآن.. فلا ذريعة في يد حزب الله يغلف بها اي نشاط عسكري يقوم به.. ولا خطر من ان تنهمر الصواريخ متعددة الجنسيات العربية والاسلامية على العمق الاسرائيلي الآن.. وبعد تدمير لبنان، وطعن اسرائيل في القلب لن يخرج اي حل جدي عن اطار ما كان يمكن ان يحدث، ولربما.. بعد سنوات يقول قراء التاريخ، اي بلادة اصابت عقول مصممي الحلول، حين كانوا ينجزون تسعين بالمائة ويدعون العشرة المتبقية معلقة، لنكتشف ان العشرة المعلقة.. تحولت الى ازمة بنسبة مائة بالمائة، وان كل ما تم انجازه اضحى في ذمة التاريخ.

لقد وفر عدم اكتمال الحل في لبنان، مجالا واسعا لادخال هذا البلد رغما عنه الى حلبة الاستقطاب الاقليمي الحاد.. فلبنان ورقة سورية ما دامت مزارع شبعا من دون حسم، وهو ورقة ايرانية ما دامت مزارع شبعا والمعتقلون اللبنانيون مادة كافية لحزب الله، كي يقاتل وقتما يشاء او حين اللزوم.

ان هذه المعادلة لم تتشكل بفعل جهد سوري او ايراني، بل جاءت هكذا من تلقاء نفسها، وبحكم التداعيات المنطقية للاشياء.

* فلسطين

* وعندنا، حيث الانهيار المأساوي المتسارع، عقب فشل لقاء كامب ديفيد، ولو القينا نظرة على الواقع آنذاك، لوجدنا ان اسرائيل قد انسحبت من اكثر من اربعين بالمائة من اراضي الضفة وغزة، ولقد تم ذلك على مدى سنوات عديدة، مما يشير الى اغفال عامل الزمن في تحديد المبادرات ومحاولة تنفيذها، وعامل الزمن سلاح ذو حدين، حد يقطع المسافات باتجاه الحل.. وحد آخر يقطع الحل او يذبحه من الوريد الى الوريد، حين تتسنى ظروف معينة لذلك.. وهذا ما حدث بالضبط في عهد المفاوضات الزاهر.. الذي جعل الفشل ينبت انتفاضة شاملة ما زالت تقف سدا منيعا امام اي محاولة جدية لاستئناف العمل السياسي التفاوضي.

وبعد الانهيار الكبير، جاء شارون، حالما ببساطة بتحقيق حل بقوة السلاح، من دون مفاوضات او حتى اتصالات وهنا، وبحكم الخروج عن منطق الحل ومتطلباته الموضوعية تحولت مبادرة شارون بالانسحاب من غزة الى كابوس ومصدر للازمات والانهيارات، مع ان فرص ان تكون مقدمة لحل جدي يمكن ان يدوم، كانت هي الاقرب والاكثر واقعية.

ان الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات جمعيا امر اعتبر واقعيا اهم خطوة تتخذ في سياق الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، غير ان تعمد جعل هذا الانسحاب، برهانا على اغداق فكرة الحل احادي الجانب.. بدا كما لو انه مجرد خدعة او مناورة، سرعان ما التهمت هذه الخطوة الكبيرة، وخلقت بعدها واقعا بدت فيه وكأنها لم تكن، بل تحولت الى العكس تماما..

هل لدى الاميركيين يا ترى استعداد لقراءة هذه المعطيات.. والافادة من دروسها؟ لو كانت الفكرة واردة اساسا فمن السهل تقديم حل عملي للمسار الفلسطيني يبدأ من تفاهم مع عباس حول غزة، شريطة ان يكون ذلك مرتبطا بخطوة اخرى في الضفة، ولذلك متطلبات تفصيلية لا تقل اهمية عن الاساسي، مثل اطلاق سراح دفعات مقنعة من الاسرى، مع اتخاذ ترتيبات عاجلة برفع كافة القيود المفروضة على الفلسطينيين بفعل المواجهة المسلحة، التي تسميها اسرائيل الترتيبات الأمنية.

لقد برهنت احداث ما بعد انهيار المفاوضات على ان أي ثمن تدفعه اسرائيل مقابل تسوية سياسية مع الفلسطينيين، هو ابسط بكثير من اثمان استمرار الصراع واستسهال تدمير الانجازات التفاوضية الجزئية، بالعودة ثانية الي المربعات الاولى.

ان ما نراه الآن في فلسطين ولبنان، هو ثمن بديهي لاغلاق المسارات السياسية التفاوضية، او هو كذلك نتيجة حتمية لترك اخطر واصعب مسارين في الصراع العربي الاسرائيلي، وهما اللبناني والفلسطيني في حالة فراغ، إما بسبب هجر المفاوضات نهائيا او بسبب وضع ترتيبات منقوصة كان يظن انها هي الحل المناسب.

ان ما يجاهر الاميركيون والاسرائيليون به، كمخاوف من استغلال المسارين الاكثر اهمية، اي اللبناني والفلسطيني، في لعبة الاستقطاب الإقليمي، لا حل له.. بعمليات جراحية مثل تلك التي تجري في فلسطين ولبنان على يد الجيش الاسرائيلي، بل حله يكون بسحب الذرائع التي تجعل الجراح مفتوحة الى اقصى مدى، كي يستغلها من يريد، ويلعبها من يريد.

أخيرا نعود إلى العنوان الأول ـ هل بعد كل هذه الدروس تبدأ محاولة جديدة وجدية للحل؟ أم هل تستمر الدوامة وتتسع دوائرها لتشمل الإقليم كله؟ وفق اجتهادي المتواضع فان كل يوم يمر من دون محاولة جدية للحل سوف يراكم مشاكل وعقدا، ربما تصل مع الزمن حد الاستحالة.