ادعاء النصر أسوأ من قبول الهزيمة

TT

قضية شائكة نواجهها في بلداننا العربية والإسلامية من دون حل، وتنقسم فيها الآراء دائماً وتتضارب حتى وصلت إلى ذلك الانقسام الخطير الذي رأيناه في اجتماع جامعة الدول العربية، وتتلخص القضية في ان القائمين على شؤون المسلمين من حكام وملوك وأمراء، متقاعسون عن القيام بدورهم، مستسلمون لعدوهم، مضيعون لحقوق رعيتهم، بينما الشعوب تغلي وتنتظر ان يحدث في الأفق شيء يوقظ النائمين من نومهم ويحرك المياه الراكدة، وينتقم لهم من سيل المهانات التي يتلقونها والسجن الكبير الذي أرغمهم عدوهم على البقاء فيه، ولكن ما من حراك، بل ان الأمور تزداد سوءاً، فالمعاهدات الدائمة التي وقعها زعماؤهم مع الأعداء قد أصبحت فروضاً لا فكاك منها، وجيوشهم قد تم تسريحها الى غير رجعة، بل ان من تعتبرهم الشعوب أعداء لتلك الأمة، هم من أصبحوا حماتها والمدافعين عنها، وليت تلك المعاهدات قد عصمت دماء الشعوب وحافظت على كرامتهم، لكن الواقع يشهد بأنها قد مهدت الطريق لمزيد من الإذلال لهم على انفراد لكل من يتم اعتباره متمرداً خارجاً عن الإرادة العامة التي تتحكم فيها عصابة من المجرمين يديرون العالم بحسب أهوائهم ومرادهم.

حتى الأمم المتحدة التي تمثل أعظم تكتل عالمي هي رهينة لدولة واحدة أو أكثر ولا يمكن اتخاذ قرار دون موافقتهم عليه، وبالطبع هم لا يسمحون إلا بما يوافق أهواءهم ومصالحهم.

إذاً فالسؤال الشائك هو: هل يحق لأفراد أو جماعات لا تشكل إلا جزءاً من تلك الأمة ان تتحرك للتصدي للعدو بإمكاناتها القليلة وظهرها المكشوف، رغم ما قد يؤدي به تحركها من ضرر على بقية الشعوب؟! وإذا كان أصحاب الشأن متقاعسين ولا أمل في حراكهم أو دفاعهم عن أمتهم، فهل يمكن السماح لحروب بالوكالة تقوم بها جهات متحمسة دون مشاورة للآخرين؟!

لا شك ان المتحمسين لذلك الأمر يبررون حماسهم بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لتحريك الأمة ودفعها دفعاً للولوج في مواجهة عدوها، كما ان التضحيات التي تأتي على الشعوب من تلك العمليات لا بد منها إن عاجلاً أو آجلاً ما دام العدو يحتل ديارنا ويسعى لتدميرنا، فالعدو الاسرائيلي لم يتوقف يوماً عن أعمال العنف والوحشية والقتل ضد المدنيين الأبرياء في فلسطين ولبنان على الرغم من المعاهدات العربية الكثيرة.

أما الرافضون لذلك الأسلوب، فيقولون ان هناك خيطاً رفيعاً يفصل ما بين الشجاعة والإقدام وما بين الانتحار وهو ان الشجاعة والإقدام يرجو الإنسان من ورائهما فائدة محققة أو محتملة وهي النصر على الأعداء، أما الانتحار فإنه تفريط في النفس دون فائدة، والجهاد قد شرع للنصر وليس لمجرد الجهاد، وان الانتظار والصبر على مضض حين لا نتيقن النصر خير من الدخول في مغامرات طائشة وصراع مع طواحين الهواء.

إذا لا شك ان التفريق بين اعتبار أي عمل عسكري ضد العدو بطولة تستحق التقدير والثناء أو مغامرة طائشة تستحق الشجب والاستنكار، هذا التفريق يعتبر قضية شائكة، ولكل فريق حججه وقناعاته، وقد لاحظنا حجم الانقسام الحاصل فيما فعله حزب الله ضد إسرائيل، سواء على مستوى الدول العربية أو مستوى الأفراد والجماعات، ما بين مؤيد ومساند أو مستنكر ومتهم.

والحقيقة هي ان كلا الطرفين قد بالغ في ذم الآخر، واعتباره متواطئاً مع العدو، مشككاً في نواياه، وهذا خطأ عظيم، فالذين اتهموا بعض الدول العربية بأنها أذناب للولايات المتحدة الأميركية، وانها تسعى لتحقيق مصالحها في المنطقة ومحاربة الأعمال الوطنية وإيثار مصلحة اسرائيل على لبنان بسبب موقفها من حزب الله، قد أخطأوا، لأن تلك الدول كانت دائماً هي الداعمة للقضايا العربية والمستنكرة للعدوان الإسرائيلي، وهي من عمّر لبنان وساهم في وقف الحرب الأهلية، وهي من سيعمره بعد انتهاء تلك الحرب، وهم لم يؤيدوا ما فعلته إسرائيل ضده بل استنكروا المغامرات غير المحسوبة عليه وما آلت إليه من دمار.

أما على الجانب الآخر، فإن الذين اعتبروا حزب الله أداة بيد إيران، وان ما فعله هو حرب بالوكالة عنها ليجنبها عقوبات دولية، ولإحراج دولته، كذلك قد أخطأوا، لأن ما قام به حزب الله هو عمل من أعمال المقاومة المشروعة، وانه ضحّى بالكثير من أجل هزيمة عدونا الأساسي وهو استمرار لمقاومته السابقة في لبنان.

إذاً فالمقياس لتقويم ذلك العمل ليس بالنيات فقط، ولكن بالنتائج، فيمكن القول ان حزب الله قد أخطأ الحسابات لأسباب عدة:

أولاً: ان اسرائيل والولايات المتحدة كانتا تنتظران الفرصة لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة وإخماد جميع الجبهات التي تشكل خطراً على إسرائيل في لبنان وفي غزة والضفة الغربية، وقد جاء أسر الجنود الإسرائيليين كمبرر لعمل عسكري معد سابقاً، وحزب الله أعطاها ذلك المبرر.

ثانياً: ان حزب الله لم ينسق مع الدولة المعنية (لبنان) مما جعلها ضحية لتلك المغامرة دون ان تستطيع تحصين حدودها أو الدفاع عن نفسها وعن شعبها.

ثالثاً: ان النتيجة النهائية لتلك الحرب قد بدت واضحة وهي إضعاف حزب الله الى الدرجة التي تضمن فيها إسرائيل عدم قدرته على شن أي حرب عليها، وتحصين الحدود الشمالية للكيان الصهيوني عن طريق حزام أمني إسرائيلي أو من الأمم المتحدة يمنع أي عمليات عسكرية قادمة ـ على الأقل للعشرين سنة القادمة ـ ولا شك ان نتيجة العمل تعطي مدلولاً لمدى فائدته من عدمها.

رابعاً: ان القيادات الشعبية اللبنانية بدلاً من ان تقف بجانب حزب الله كانت جميعها ـ تقريباً ـ مستنكرة لما فعله كما سمعنا من كبار القيادات اللبنانية، ولا شك ان من لوازم أي حرب على الخارج هو اصطفاف القيادة الداخلية وتوحدها، وهو ما لم يحصل.

خامساً: ان عمليات حزب الله في عمق إسرائيل كان واضحاً بأنها لم تحقق إلا أقل القليل من التأثير، ولم تؤثر على تماسك اليهود مع قيادتهم.

سادساً: ان لبنان قد خسر الكثير الكثير من هدم بنيته التحتية، وقتل شعبه دون ان يجني أي شيء، ولنتصور بأن حزباً آخر قد قام بعملية مماثلة ضد إسرائيل من لبنان، فماذا سيحدث مرة أخرى للبنان، وهل سيقتنع الشعب اللبناني بتلك المغامرات ويعتبرها بطولة وشهادة؟!

اننا جميعاً بحاجة إلى تحكيم المنطق والعقل في تلك الأمور المصيرية.

* كاتب كويتي