هل يستطيع العربُ أن يقولوا الآن «لا»؟

TT

أحد الأسئلة المهمة التي تطرح نفسها الآن بقوة السؤال التالي: هل يستثمر العرب سياسيا التغيرات التي شهدتها ساحة المواجهة في لبنان خلال الأيام الأخيرة؟

قبل محاولة الإجابة عن السؤال، فإنني ألفت الانتباه إلى أن تلك المتغيرات أعمق مما يتصور كثيرون، وإنها شملت الوجدان العربي والإسلامي من ناحية، كما استدعت حقائق جديدة إلى ارض الواقع.

التقيت قبل عدة أيام ربة بيت من قريباتي عرفتُ عنها استغراقها في شؤون بيتها وأبنائها، وانفصالها عن الشأن العام، والشأن السياسي منه بوجه أخص. وهذه المرة فوجئت بها تقول إنها بعد أن أدت صلاة الفجر ظلت تدعو الله أن يحفظ السيد حسن نصر الله، وان ينصر حزب الله في معركته ضد إسرائيل.

وأضافت أن الدموع انهمرت من عينيها بدون وعي منها حين قالت لها إحدى الجارات إنه أصيب بسوء جراء القصف الإسرائيلي. وحين سمعت من التلفزيون انه سيلقي كلمةً، فإنها انتظرت الى ما بعد منتصف الليل، ولم تنم حتى شاهدته بعينيها الدامعتين، واستشعرت فرحة غامرة حين وجدته معافى، الأمر الذي طير النوم من عينيها فظلت يقظة حتى أذان الفجر.

هذه ليست حالة خاصة، وإنما ازعم أنها تترجم الروح الجديدة التي سرت في الشارع العربي، الذي يعشش فيه اليأس منذ سنوات مقترنا بشعور بالانكسار والمهانة، جراء تلاحق مشاهد التراخي والتفريط والانصياع في العالم العربي، في مواجهة التغول والعربدة الإسرائيلية، التي تتم من خلال الدعم الأمريكي المستمر.

والأمر كذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن الروح الجديدة التي سرت في الشارع العربي تداخلت فيه مشاعر الثقة مع الأمل والكرامة مع شيء من رد الاعتبار.

أما الحقائق التي أبرزتها تجربة الأيام الأخيرة؛ ففي مقدمتها ثلاث هي:

* إن إسرائيل فشلت في تحقيق الهدف الأساسي من العدوان الذي شنته وهو القضاء على حزب الله وتدمير قوته، وهو الفشل الذي لم تعد وقائعه بحاجة إلى إثبات بعدما ذاع أمره، واصبح مثار دهشة كل المعلقين المحايدين، وهم الذين كانوا واثقين ومطمئنين تماما إلى أن إسرائيل سوف تكتسح المقاومة وتهدم كل ما بنته، ورغم أن الحرب لم تنته بعد، إلا أنه مضت ثلاثة أسابيع، بدون أن تحقق إسرائيل هدفها بل أن الإسرائيليين في شمال البلاد ما زالوا في المخابئ، ذلك وحده كاف في التدليل على أن الانتصار لم يتحقق وانه لم يعد مضمونا ولا مفروغا منه، الأمر الذي اسقط مباشرة فكرة الجيش الذي لا يُقهر. وأهم من ذلك واخطر انه ضرب جوهر المشروع الصهيوني الذي استقدم الآلاف من كل صوب لكي يعيشوا في أمان فوق البقعة التي اخترعوا لها اسم ارض إسرائيل. وبعد اكثر من خمسين عاما على إقامة الدولة، فان الأمن الموعود لم يتحقق.

* الحقيقة الثانية أن مقاومة حزب الله لم تصمد فقط أمام الهجوم الإسرائيلي المدجج بكل ما في ترسانة السلاح الأمريكي من أدوات التدمير والفتك، وإنما أيضا وجهت ضربات إلى وحدات «الكوماندوز» العسكرية الإسرائيلية التي طالما تباهوا بها ولم يجد الإسرائيليون بدا من الاعتراف بخسائرهم الفادحة في المعارك التي دارت وليس أدل على قوة وفاعلية تلك الضربات من مسارعة الولايات المتحدة مع حليفتها هل نقول تابعتها؟ بريطانيا إلى التحرك للمطالبة بوقف إطلاق النار، بعدما ظلت التصريحات الرسمية الأمريكية تردد طول الوقت أن وقت وقف إطلاق النار لم يحن بعد. وبعد أن ذهبت وزيرة الخارجية الأمريكية إلى مؤتمر «آسيان»، وهي تردد انه ليس لديها خطط قريبة للعودة إلى العالم العربي، في ظل السعي الأمريكي المكشوف لإعطاء إسرائيل أطول فرصة ممكنة لتحقيق أي إنجاز على الأرض، بعد أن كان المشهد على ذلك النحو، فان السيدة «كوندي» تلقت تعليمات مفاجئة للقدوم إلى الشرق الأوسط خلال 24 ساعة للحديث عن «صفقة» وقف إطلاق النار.

* نعم نجحت إسرائيل في إشاعة الموت والخراب في أنحاء لبنان لكنها لم تنجح في تدمير حزب الله لذلك صدق فيها قول من قال إنها أنجزت الكثير ربما على صعيد البربرية والهمجية لكنها لم تحقق الانتصار العسكري الذي تنشده ولأن الفشل كان نصيبها في المواجهة العسكرية فان «الكفلاء» ـ أمريكيين وبريطانيين ـ سارعوا إلى استنقاذها وحفظ ماء وجهها، حين دعوا إلى حلول سياسية تتزامن مع وقف إطلاق النار.

* والحقيقة الثالثة أن الولايات المتحدة في هذه الحرب كانت شريكا أصيلا منذ اللحظة الأولى، وهو ما تجلى في معارضتها المبكرة لأي وقف لإطلاق النار لإعطاء الإسرائيليين المزيد من الوقت لمواصلة الاجتياح والتدمير والقتل، كما تجلى في تبنيها الكامل للمطالب الإسرائيلية في كل محفل دولي، وتجلى أيضا في مسارعة واشنطون إلى تزويد إسرائيل بالقنابل التي يسمونها ذكية، أملا منها في أن تستخدم تلك القنابل في دك تحصينات حزب الله وإلحاق الهزيمة برجاله.

* لقد كانت مذبحة قانا الثانية تجسيدا لما بلغه الإجرام الإسرائيلي والتواطؤ الأمريكي، الأمر الذي كان لابد معه أن يصعد لبنان من موقفه ويرفع سقف اشتراطاته، وأحسب أن الروح الجديدة التي سرت في المنطقة شجعت الحكومة اللبنانية على رفض استقبال وزيرة الخارجية الأمريكية، والإعلان عن أنها لن تقبل بأي مباحثات حول الوضع إلا بعد وقف إطلاق النار وإجراء تحقيق دولي في الجريمة البشعة التي ارتكبها الإسرائيليون. الأجواء ذاتها دفعت رئيس البرلمان السيد نبيه بري إلى الإعلان أن الأفكار التي أطلقها في سياق حديثه عن الوساطة في تبادل الأسرى، لم تعد قائمة الآن لأن الموقف تغير بعد مذبحة قانا.

* موقف الحكومة اللبنانية في هذا الشق كان طبيعيا، الأمر الذي يستدعي السؤال الذي طرحته في البداية عن استثمار الدول العربية لتلك المتغيرات التي شهدها لبنان. لا يقولنَّ أحد أن العرب بعيدون عن تلك المواجهة، لان المشكلة لبنانية بالأساس وهو الادعاء الذي نتوقعه من «المارينز» العرب والذي يعبر في الحد الأدنى عن التسطيح والجهل، وكل منهما يصب في وعاء التستر والتواطؤ ليس فقط لان إسرائيل المتوحشة تظل تهديدا مباشرا للأمن القومي العربي، ولكن أيضا لان الأمريكيين يريدون استثمار تلك المواجهة في مشروعهم للشرق الأوسط الجديد، الذي نحن جزء منه، رضينا أم كرهنا، بالتالي فنحن جزء من «الطبخة» الجديدة التي يفترض أن تتم أو هكذا تمنوا في ضوء تقديرهم للهزيمة العربية التي توقعوها والتي حسبوا أن العرب بعدها سيطرقون أبواب الأمريكيين وهم راكعون ومنكسرون.

* هل بوسع العرب أن يقولوا الآن «لا» للولايات المتحدة وإسرائيل؟ ألا يحق لهم أن يعلنوا رفضهم لاستقبال السيدة رايس، ولفكرة الشرق الأوسط الجديد؟ وهل يقبل من أحد منهم الآن أن يتحدث عن خريطة الطريق، خصوصا بعدما أعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية أن عملية السلام ماتت، وان العرب في هذه العملية خدعوا وانضحك عليهم ؟ ثم ـ ألا يحق لنا أيضا أن نعيد النظر في «المبادرة العربية» فنطورها وننص فيها ـ مثلا على حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم إلى جانب انسحاب إسرائيلي من كافة الأراضي التي احتلتها عام 67؟

ادري أنني لست افضل مما يجيب عن السؤال: كيف يستثمر العرب المشهد، وأحسب أن هناك من هو افضل مني واقدر على تلك الإجابة، لكن غاية ما تمنيته أن يكون ردنا بالإيجاب عن السؤال «هل يستثمرون؟»، مدركا أن ذلك الرد له شرط واحد هو توافر الإرادة لدى أصحاب القرار، لأنه في غيبة تلك الإرادة، فان كل ما قلته سيظل نفخا في قِربةٍ مقطوعةٍ وجرياً وراء سراب خداع، وعندئذ سينبهنا ذلك إلى أن مشكلتنا أبعدُ وأعمقُ من الاحتلال الإسرائيلي.