ساق خشبية!

TT

ليل كئيب ذرفت عيونه الحزينة قطرات من الندى على أحياء بيروت الغارقة في العتمة، والمذياع في الحانوت الصغير، الذي ظل فاتحا نصف بابه في «الأوزاعي» ملأ نفس عباس بالشجن، فهم بالنهوض، لكنه تذكر انه خلع لتوه ساقه الخشبية، فأعادها إلى مكانها ونهض صوب الشارع..

قوافل عربات النازحين من القرى الجنوبية ترفع الرايات البيضاء وتواصل السير إلى «لا أين» بيروت، وكف عباس تمطر نوافذ العربات بالخبز والماء والحلوى، ليصمت صراخ الأطفال لبعض الوقت، آذنا لحناجر النسوة المتعبة بالدعاء.

وحينما ولدت شمس بيروت من رحم العتمة، راح يصفع الأرض بساقه الخشبية صوب الضاحية الجنوبية، وهو يترنم بالغناء:

«منتصب القامة أمشي... مرفوع الهامة أمشي

في كفي غصن الزيتون... وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي..»

على الجسر المتهدم جزء من لوحة إرشادية لم يبق من حروفها سوى «ا ل ض...»، أسفل منها إصبع مقطوع، نزع منه خاتم الخطوبة، فقرأ على حوافه اسم «مروة»، توقف بقدر ما أسعفه البكاء، ثم مشى.. كانت الطائرات تعربد فوق رأسه، والضاحية تحترق، وهو يمشي صوب مئذنة اعتلى أنقاضها، فسمع صوته يردد:

حي على الفلاح

حي على الفلاح

وفي الظهيرة حينما جاؤوا لانتشال الجثمان، كانت الساق الخشبية قد تحولت إلى سارية يرفرف فوقها علم لبنان، وقد انبعث من تحت الركام النشيد:

«سأموت الليلة عن بيروت

سأصلب في الحمراء

ليكون للبنان رجاء

وحياة للشهداء».

وفي أقصى الجنوب على ربوة في «الخيام» يقول الرواة إنهم شاهدوا جثة عباس ترقد في سلام وقد توحدت مع ساقها المدفونة هناك قبل أعوام.

[email protected]