أنيس النقاش وسقوط الخلافة الإسلامية

TT

لن أتحدث هنا عن المسائل المعاصرة التي تناولها أنيس النقاش في حواره الأخيرة في برنامج الاتجاه المعاكس لأنها ظاهرة وواضحة وآراؤه حولها ليست جديدة باعتبار انتمائه المعروف واتجاهاته الواضحة المبنية على هوى معين. ولكنني سأتناول هنا حقيقة تاريخية اساء استخدامها أنيس النقاش ليبحث عن روافد حقيقية تسند مغالطاته العجيبة، ولكنه اخطأ الاختيار هذه المرة كغيرها من المرات فالتاريخ لا يمكن ان يستغل بهذه الصورة المفضوحة، والمشاهد العربي ليس بهذه السذاجة التي يقبل فيها بمثل هذه الأساليب الملتوية.

اقف هنا عند ما ذكره أنيس النقاش في حواره أو ما يمكن ان أسميه (صراخه) حول سقوط الخلافة الاسلامية حيث قال ان اسقاط الخلافة الاسلامية تم على يد عائلتين هما آل سعود والهاشميين الذين تمردوا من خلال حركتهم واسقطوا الخلافة الاسلامية وأصبحت اقطار الأمة العربية مجموعات.

هل يعقل هذا؟ هل يقبل مثل هذا الكلام وحقائق التاريخ ماثلة أمامنا وواضحة؟ هنا أدعو أنيس النقاش الى الكف عن الصراخ والنفخ في أفكار بالية ومغالطات مقصودة وقراءة التاريخ وحقائقه بشكل صحيح وعدم اساءة استخدامه لأغراضه المعروفة.

لقد نسي أنيس النقاش أو تناسى ان الدولة العثمانية لها تاريخ طويل لا يمكن اختصاره في عبارة مشوهة مثل عبارته تلك، وان اسباب الغاء الخلافة الاسلامية معروفة للقراء وهي في غالبها اسباب داخلية ونتاج تطورات تسببت فيها الدولة والأتراك أنفسهم.

فقد ظهرت في الدولة العثمانية في أواخر عهدها حركات قومية عديدة من أبرزها حركة تركيا الفتاة التي نشأت سنة 1889م بهدف العمل بالدستور المعلق منذ عام 1876م وهو دستور مدحت باشا، وانتشرت هذه الحركة داخل الدولة العثمانية وخارجها واصدرت لها صحفا من أبرزها صحيفة الميزان التي كانت تصدر بالقاهرة. ومن أبرز هذه الأحداث ايضا ظهور النزعة القومية في البلاد العثمانية أو ما كان يسمى بالحركة الطورانية في تركيا التي أدت في نهاية الأمر الى الغاء الخلافة الاسلامية ونزع الدين من حياة الدولة العثمانية ثم سقوط الدولة العثمانية بكاملها وانشاء تركيا الحديثة.

وفي عام 1890م ظهر أول حزب سياسي سري في الدولة العثمانية باسم حزب الاتحاد والترقي يهدف الى معارضة السلطان عبد الحميد الثاني، وعندما اكتشفه السلطان نفى الكثير من اعضائه، ونتيجة لذلك تأسس في باريس تجمع قومي تركي جديد مكون من أعضاء الاتحاد والترقي باسم مؤتمر الاحرار سنة 1902م، مما عزز حركة الاتحاد والترقي داخل الدولة العثمانية. تولت هذه الحركة الحكم في تركيا في عام 1908م، وتنازل السلطان عبد الحميد عن الخلافة في عام 1909 بسبب ضغوط الحركة وتغلغلها في أوصال الدولة والمجتمع.

فالطورانية حركة قومية تركية معروفة ظهرت لالغاء دولة الخلافة الاسلامية وانشاء الجمهورية التركية الحديثة. ولقد عرف القرن التاسع عشر الميلادي عند المؤرخين بأنه قرن القوميات والحركات القومية والتي انطلقت في أوروبا وامتدت الى الدولة العثمانية لتظهر الحركة الطورانية فيها، وعندما وصل أعضاء حركة تركيا الفتاة الى السلطة قاموا بالشروع في سياسة التتريك بشكل ملفت للنظر. وأدى هذا النشاط القومي الى اضعاف الدولة العثمانية واسقاط الخلافة الاسلامية من جهة، والى تهيئة الارضية لنشوء حركات قومية في الدول العربية من جهة أخرى.

وبوصول الاتحاديين الى السيطرة على الحكم في الدولة العثمانية بدأ الخلاف يزداد بين العرب والاتراك خاصة وأن المظاهر القومية في تركيا أخذت تسيطر وتزرع بذور الخلاف مع العناصر الاسلامية الأخرى التي كانت فيما مضى تحت ولاية الدولة العثمانية.

لذا لم يكن للدولة السعودية أو للثورة العربية التي اعلنها الشريف حسين أي دور في انهاء الخلافة الاسلامية، وانما ظهرت الثورة العربية كنتيجة مباشرة لسياسة التتريك وسيطرة القومية التركية وجاءت بعد سقوط الخلافة الاسلامية. وهل نسي أنيس النقاش أن الثورة العربية كانت نتاج أولئك القوميين العرب من سوريا ولبنان ومصر والعراق وفلسطين وبقية انحاء العالم العربي والذين اسهموا في المشاركة الفعلية فيها. أما الدولة السعودية فلم تشارك فعليا في تلك الثورة وكانت منشغلة آنذاك باعادة التأسيس منذ عام 1902م بقيادة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ الذي أعاد لمعظم شبه الجزيرة العربية وحدتها، وأمر أخر مهم أيضاً هو أن توحيد البلاد السعودية بقيادة الملك عبد العزيز، والثورة العربية التي قادها الشريف حسين كانت بعد سقوط الخلافة الاسلامية وليست سببا في سقوطها كما ادعى أنيس النقاش!!.

وهنا أقف لتذكير أنيس النقاش بأن اتهام الدولة السعودية بالغاء الخلافة الاسلامية وتفتيت العالم العربي غير مقبول تاريخيا وواقعيا لأن الدولة السعودية كانت تحترم الدولة العثمانية وعلى علاقة جيدة بها أما ما يخص الأراضي السعودية والتي كانت الدولة العثمانية تسيطر عليها مثل الأحساء فلقد عمل الملك عبد العزيز على استعادتها من أجل اعادة تأسيس الدولة السعودية ولم تكن جهوده تمرداً على الدولة العثمانية. كما أشير هنا أيضا الى ان الملك عبد العزيز وبعد اجلاء الاتراك من الأحساء سنة 1913م قام بتوقيع اتفاقية مع الأتراك سنة 1914م احترمت بموجبها الدولة العثمانية قيام الدولة السعودية. ومن جانب آخر فالجهود التي قام بها الملك عبد العزيز آنذاك في بداية القرن العشرين الميلادي لم تكن تلك الجهود موجهة للانسلاخ من كيان الدولة العثمانية أو الخلافة الاسلامية، وانما كانت موجهة لقضية واضحة هي اعادة تأسيس الدولة السعودية التي تمتد في جذورها الى الدولة السعودية الأولى التي تأسست في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. وهنا أسأل: هل ما قام به الملك عبد العزيز ورجاله الأوفياء من توحيد لمعظم شبه الجزيرة العربية في دولة واحدة هو تفتيت للأمة العربية وللأمة الاسلامية؟!

* كاتب سعودي وأمين عام دارة الملك عبد العزيز