أيها العراقيون: هل نعيد اكتشاف أنفسنا؟

TT

ليس ضروريا ان الدول والمجتمعات المتجانسة، وبسبب تجانسها هذا، ان تعيش سلماً اجتماعياً وتترسخ فيها الوحدة الوطنية. وايضا ليس ضروريا ان الدول التي تحوي تعدديات ثقافية او إثنية او دينية تعاني من مشكلات على صعيد وحدتها الوطنية. فمن بين الـ 193 دولة التي تمثل المجتمع الدولي المعاصر، فإن 12 منها فقط يتمتع بالتجانس العرقي والثقافي. ومن بين هذه الدول كوريا والصومال، اللتان تعانيان من تمزق واضح في وحدتهما الوطنية، في حين ان دولا لا تتمتع بتجانس إثني مثل هولندا وبلجيكا والهند والولايات المتحدة وسويسرا وماليزيا وتنزانيا، لا تعاني من مشكلات بارزة على صعيد وحدتها الوطنية، وهذا يقودنا الى استنتاج بأن التجانس التام لا يخلق بالضرورة دولة ناجحة أو ان نقيضه يقود الى دولة فاشلة، بل ان ذلك يعود الى طبيعة النظام السياسي ومدى قدرته في ان يشكل اطاراً جامعاً، ولرغبة الجماعات المحلية في العيش المشترك، وفي النجاح في تحقيق التوحد الاجتماعي بصهر التكوينات الاجتماعية المختلفة ذات المنبت القبلي او الطائفي في بنية اجتماعية يؤسسها الانتماء الجماعي الى وطن مؤسس على مبدأ المواطنة التي تعيد تعريف الناس تعريفاً سياسياً بوصفهم مواطنين خارج علاقات تضامنهم العصبوي والولاءات التقليدية.

والعراق إذا ما قيس بتصنيفات التجانس الموجودة في باقي الدول يعتبر مجتمعا يتمتع بقدر عال من التجانس، حيث ان جميع مكونات العراق الاثنية تلتقي بمشتركي الاسلام والعربية فضلاً عن التاريخ الطويل المشترك، لذا هو يعتبر مجتمعا متجانسا في دينه ولغته وتاريخه، إذن ما الذي دعا العراق ان لا يلتفت الى تجارب تعايش الشعوب، وهل هو في تكوينه بدعاً عن، لا اقول الدول المتقدمة، بل عن تلك التي تشترك معه في ثقافة الشرق وحالة التخلف؟

وهل تعدد مكوناته يرقى الى تعدد جماعات الهند التي تتكون من اكثر من 400 جماعة، أم من نيجيريا التي تتكون من 250 جماعة؟ أم ان خلافات سنته وشيعته هي اكبر من تلك التي بين مكونات ماليزيا، النمر الاسلامي الوحيد، الذي بالقطع لم يكن ليثب لو لم ينطلق من وحدة وطنية جمعت المختلفين عرقياً ولغوياً ودينياً، بل ان دياناتهم حتى لا تشترك بأنها موحدة، فهم مسلمون وهندوس وبوذيون، فلماذا يترك العراقيون الحاضر ويذهبون الى الماضي، الى زوايا التاريخ، مفتشين عن عوامل الاصطراع وحوافز التوتر، مستحضرين رموز الاصطراع ومعيدين تأهيلها جاعليها الناظمة لصراعاتهم السياسية، فبدل ان يتم التصنيف في الساحة السياسية الى يسار ويمين، او ذوي ميول اشتراكية واخرى رأسمالية او متبنين للعدالة الاجتماعية، او ما بين تيارات اعتدال وراديكالية، بات التصنيف الى «روافض» و«نواصب» و«بويهيين» و«صفويين» و«الامويين الجدد»، متوهمين بأن التاريخ ونوازله دين وعقيدة، وليس هو سياسة الماضي، وكذلك هي الطائفية لا تخرج عن ان تكون سياسية سواء لجهة نشأتها ونموها واستمرارها وبالتالي في علاجها، فالمذاهب والفرق جلها نشأت سياسياً، لذا نجد ان كل فرقة عندما تؤرخ لنشأتها فأنها تقرنها بحادثة تأريخية.

انها سياسة الماضي تلقي بظلالها على حاضرنا، وإلا أنه، وعلى اهمية هذه الفروق، فإنها ليست محط تذكر من قبل الفرقاء الذين ما زالوا يختصمون؛ فالقران ليس سنياً او شيعياً، بل هو لكل المذاهب وفوقها، هنالك من يأخذ بالتفسير الظاهري لنصوصه وهناك من يأخذ بالتأويل، وفي نحوه مدرستا الكوفة والبصرة، والسنة النبوية الشريفة يتلقاها السنة عن طريق البخاري واصحاب الصحاح، والشيعة عن الكليني وابن بابويه والاباضية عن ابن حبيب، ولكل له طرق إسناده وتصحيح رجال الحديث ورواته، وفي الفقه يختلفون في بعض أحكام الطلاق والمواريث، وفيما اذا ابن الاخ والجد يورثان مناصفة، وفي الاحكام واستنباطها من يأخذ بالرأي ومن يأخذ بالأثر، وفي الفكر من يقول ان الامامة عقد بين الامة والحاكم وانها اختيار، ومن يقول انها لطف الهي، وفي مرتكب الكبيرة اختلفوا فيمن يراه مخلدا في النار او يرجأ حسابه، وثالث يضعه في منزلة بين المنزلتين، وفي أفعالنا من قال بالجبر ومن قال بالتفويض او من قال بينهما، وفيما اذا كان يستدل على الحسن والقبح بالنص أم هما عقليان، كل ما تقدم أعلاه لا خطورة منه، كوننا اولاً نجهله وثانياً لم نعرف فقيهاً قتل آخر على حكم من الأحكام؛ فالمشكل هو في السياسة سواء في التاريخ الذي هو سياسة الماضي أم الطائفية التي أريد لها ان تهيمن على الحاضر وتحكمه، اذ كما قال المؤرخون إنه ما سل سيف ولا أريقت دماء على مسألة في الاسلام مثل قضية الإمامة، التي يرى السنة أن التسلسل الزمني لتعاقب الخلفاء على رأس الجماعة الاسلامية هو التسلسل الشرعي، في حين ان الشيعة يضعونها في اثني عشر اماما، ولكن المهم هنا انه بعد اختفاء الامام الثاني عشر منذ ألف سنة أصبح الاختيار عند الفريقين بشريا، اي توحد الرأيين، اذن نحن أمة تختصم على تراث ما قبل ألف سنة!

ومن جهة أخرى، فإذا كانت بيئة نشوء العصبيات واندلاع التنازع بينها هو قيام السلطة على قاعدة فئوية وتحولها الى ملكية خاصة بيد العصبية المتفردة، فإن المفترض ان السلطة في العراق الآن متوزعة على أساس ديمقراطي، بل زد على ذلك ان الفاعلين السياسيين لم ينقسموا كما هي تجارب الحكم في العالم الى حكومة ومعارضة، بل انهم جميعاً في الحكومة، اي ان الكل يجد نفسه ممثلا في أجنحة السلطة التشريعية والتنفيذية، وهذا ما يجعل هرم السلطة يبدو مصطلحاً ومتراضياً في توزعه للكعكة السياسية.

فاذا كانت قمة الهرم مصطلحاً والنسيج المجتمعي العراقي عاش تنوعه لآلاف السنين واندمج عشائرياً وتصاهر عائلياً والانسان العراقي، كأي انسان معاصر، ينتمي الى عدد من الهويات لا تختزل فيها واحدة الباقيات، فهو ينتمي اقتصادياً ومصلحياً الى طبقة اجتماعية، ولغوياً وحضارياً الى قومية، وميولاً الى فضاءات ثقافية ومعرفية، فالغريب ان يتقدم فيه الكائن الطائفي ويلغي كل ما عداه. واخيراً فانه لا مهرب من تفسيرالعنف الدائر بصفحته الطائفية كمؤشر على فشل الطبقة السياسية وضعف المناعة المجتمعية وفشل انساننا في ان يكون كائناً اجتماعياً يعيش حاضره ويتطلع لمستقبله ويسترشد ويتعظ بتجارب غيره، كما ان تلفح هذا العنف بالاغطية الدينية، يشي بإخفاق المؤسسات الدينية ومنابر الفتوى والتوجيه في تدجين نوازع الناس وتوحيد قلوبهم، وفي ان تجعل من خلافاتهم رحمة وبابا للثراء والتيسير، بل تطاول البعض منهم في التعدي على اختصاصات الخالق بإعراضه عن قوله تعالى «الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون».