وماذا عن أمريكا القديمة!

TT

عندما أطلقت فاتنة السياسة الأمريكية كوندوليزا رايس تعليقها الأخير الأشهر، على الأزمة والحرب القائمة بين حزب الله واسرائيل، ان هذا هو بداية المخاض لميلاد شرق أوسط جديد، فتح تعليقها هذا الباب لسيل جارف من الآراء والردود، لم يهدأ حتى هذه اللحظة، خصوصا أن التعليق كان مبهما وخاليا من التفاصيل الشارحة، وكما يقال في المثل الانكليزي القديم: «الشيطان يكمن في التفاصيل». فغير واضح حتى الآن المقصود بالشرق الأوسط الجديد، ولا النموذج الذي سيتم البناء عليه وتقليده واتباعه، وبقدر الترويج والحديث عن هذا الشرق الأوسط الموعود، هناك شوق وحنين شديد لأمريكا القديمة. فلم يعد سرا ولا غريبا أن هناك تغيرا هائلا وكبيرا قد طرأ على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذا التغيير بقدر ما نال من سخط أعدائها، فلقد نال سخط حلفائها أيضا، بل ووصل الحد الى أن يكون السخط على أمريكا الجديدة من الداخل الأمريكي نفسه، فبالاضافة لحالة الغضب والرفض الحاصلة (والمتزايدة نسبتها) على الحرب الأمريكية في العراق، هناك مواضيع عديدة ومختلفة تزيد من هذه الغضبة، منها أهمال قضايا البيئة، وزيادة الصرف على الدفاع وشركات التسليح، والبعد عن العمل الجماعي الدولي، وتحقير كيانات مهمة كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها.

ولعل «الحدث» اللافت الذي يبرهن أن العالم قد يكون يشاهد مراحل عودة وعي أو يقظة ضمير، لإعادة بعض مفاهيم وقيم أمريكا القديمة. ففي هزيمة ساحقة خسر السيناتور الأمريكي المخضرم جوزيف ليبرمان، ترشيح حزبه الديمقراطي عن ولاية كونتكت، وهو الذي خدم في هذا المنصب لأكثر من عشرين عاما. والسبب الرئيس لهذه الخسارة، كان تأييده لسياسة بوش في الحرب على العراق (على الرغم من أن بوش، كما هو معروف، ينتمي للحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي يعارض أكثر من 85% من أعضائه هذه الحرب). أمريكا القديمة كانت أكثر عقلانية، أكثر توازنا، أكثر تقديرا للأمور.

كان فيه التوازن الأكاديمي مع الهيمنة العسكرية، الآن تغير الوضع وبات التعامل مع دولة من عهد الغرب الموحش في أفلام رعاة البقر، بحيث يكون كل عدو، وبالتالي كل قضية: قضية حياة أو موت، والمعنى فيها مطلوب حيا أو ميتا وبالبقاء للأقوى، حتى الوثيقة الأهم وهي قانون الحريات والدستور الأمريكي، عطلت بعض مواد الفخر فيه، وباتت لا تساوي الحبر والورق المكتوب به.

قد يشاهد العالم ثورة صامتة في شهر نوفمبر القادم، وهو موعد الانتخابات البرلمانية تمهد فيه لعودة أمريكا القديمة. أمريكا لم تكن يوما من الأيام دولة كاملة وتحيزها لإسرائيل سيكون دائما وصمة عار فيما يخص توازنها وعدالتها، إلا أن ما يراه العالم منها اليوم هو تخليها عن كل ما آمنت به وروجته على أنه حق وعدل. مثل ولادة أي كيان جديد لا بد من أن تكون «القابلة» نفسها لديها الجدارة والمصداقية، لأنه بدون ذلك ستكون الولادة قيصرية وسيموت الجنين.