الدفاع عن الجنون..!

TT

لم يحدث من قبل في تاريخ العالم أن تم الدفاع عن الجنون مثلما جرى في صحف وفضائيات عربية خلال الأزمة اللبنانية الأخيرة. وجاء هذا الدفاع مرة من خلال الهجوم على العقل والعقلانية والواقعية باعتبارها صنو التخاذل والانبطاح والاستسلام؛ ومرة أخرى من خلال تبرير قرارات مغامرة كان أهم ـ وأروع ـ ما فيها أنها لا تخضع في اتخاذها لحكمة وإنما لقرارات فردية اعترف أصحابها أنفسهم بأن حساباتهم لردود الفعل لم تكن صحيحة. وبشكل ما ظهر العالم العربي وقد انقسم هذه المرة إلى جماعة من الأشرار الذين يستعملون العقل كثيرا وبإفراط أكبر مما يجب في التعامل مع وقائع محددة، وجماعة من الأخيار الذين عقدوا العزم على مناطحة أقدار عظمى تتجاوز سقوف العقول وقدراتها لأنها تحتوي على نوع من الإلهام العلوي الذي لا يعرف محتواه هؤلاء العاديون من البشر. وببساطة كانت جماعة من العرب قد أتت من قصص الحياة التقليدية حيث يكون للقيم المادية والمعنوية قيمة معروفة ومعلومة يمكن حسابها وتقديرها، أما الجماعة الأخرى فقد كانت قادمة من قلب الملاحم مباشرة حيث تختلط الأحلام بالوقائع فتحلق بها إلى حيث تستعصي على عقول من هم ليسوا على ذات القدر من الشجاعة، بل قل مباشرة إنهم من الجبناء.

وجاء الهجوم على العقل من كل حدب وصوب، فلم تنفرد به جماعة أو حزب، ولم تحتكره صحيفة أو محطة تلفزيونية، ولم يقيده مستوى للتعليم، بل إن كثرة من حاملي رسالات الدكتوراه والمشهود لهم بالعلم في حقول بعينها انضموا بحماس وانفعال إلى الحملة مستخدمين علمهم في استخلاص الدروس من التاريخ على أن الجنون هو الذي كان يقود البشرية إلى التحرر والعدل. وبينما كان العالم كله قد استقر على تمجيد عصور التنوير والعقل، ورفع إلى سماوات من التقدير مفكرين وفلاسفة لأنهم لعبوا أدوارا في ترقية أساليب التحليل والتفكير؛ ظهر الأمر على جانبنا العربي رفعا للجنون والمغامرة والاندفاع واحتقار الحسابات إلى سماوات علية. واكتمل الخروج العربي على العالم حينما أصبح الفخر بالحالة التي وصل إليها لبنان من تدمير ذائعا، وحينما تم اعتبار عودة الاحتلال الاسرائيلي إلى جنوب لبنان والحصار البري والبحري للبلد العربي انتصارا عسكريا رائعا. وبينما اعتبرت الأحزاب والقوى السياسية والفكرية في إسرائيل ما جرى يستحق المساءلة والتحقيق لكل المستويات العسكرية والسياسية، وجدت جماعتنا السياسية أن محاسبة سماحة السيد حسن نصر الله على تشريد مليون من اللبنانيين هي نوع من الإهانة غير الواجبة، ومزايدة «عقلانية» سمجة، خاصة بعد أن قام الإسرائيليون بالتحقيق نيابة عنهم، وعنا أيضا؛ وطالما أنهم حكموا بالتقصير على أنفسهم فلا بد أن النصر كان حليفنا.

وكانت الحجة الرئيسية التي ذاعت بين جماعة المدافعين عن الجنون أنه في الصراعات التاريخية الكبرى لا يجوز الحساب لأنها بطبيعتها تقوم على اختلال هائل في موازين القوى، ولذا فإنه لو حسب «شارل ديجول» – هكذا جرى المثلـ حالة التوازن بين فرنسا وألمانيا لما سار على طريق المقاومة. وكذلك جرى المثل الثاني وكان بطله الزعيم الفيتنامي «هو شي منه» الذي لو قارن بين بلده الفقير والولايات المتحدة لما ذهب إلى حرب ذاقت فيه واشنطن مرارة الهزيمة. ويستمر أصحابنا في الإشادة بالقدرة على الخروج على قوانين الطبيعة، فلا توازن القوى يصير ساريا، ولا حتى قوانين الجاذبية يصير لها دورا، ويتحول أبطال التاريخ إلى جماعة من السحرة أو أصحاب الولاية القادرين على تحويل التراب إلى ذهب، ومزج الماء بالزيت. وتكتمل الصورة تماما عندما يبزغ فيها السيد حسن نصر الله ليقف في صف زملائه في التاريخ محملا بهالات قدسية كافية تماما لتجاهل كل الوقائع على الأرض.

المدهش تماما أن أيا من «الأبطال» التاريخيين – وديجول وهو شي منه في المقدمة ـ لم يتخل البتة عن واقعيته، فلم يكن توازن القوى قط حسابات ما لدى الطرفين من أسلحة، وإنما يضاف لها قائمة طويلة من العناصر الأخرى التي تجعل الحسابات المادية أكثر تعقيدا مما تبدو، أما الحسابات المعنوية فهي التعقيد نفسه. فإذا كان للطرف الاستعماري المعتدي أسلحة كثيرة فإن خطوط إمداداته طويلة، وإذا كاني لديه الثروة فإن التحالفات العظمى تعوضها بالإضافة للقوة الذاتية. وعندما رفض ديجول الاحتلال الألماني لبلاده كان يعلم تماما أنه سوف يقف في الصف الأكثر مالا والأعظم قدره، فتوازن القوى من الناحية الحسابية المحضة كان يقف إلى جانب الحلفاء وليس إلى جانب المحور، خاصة بعد انضمام الولايات المتحدة بقواتها العسكرية إلى الحرب. وكان هو شي منه يعلم أن إضافة الصين القريبة والاتحاد السوفيتي غير البعيد يحسم المعركة مع بلد لا يعلم جنوده لماذا يحاربون، ويقاتلون وهم على بعد عشرات الألوف من الأميال من حدود بلادهم. وكان ديجول يحارب في حرب عالمية ساخنة، بينما كان هو شي منه يحارب في حرب عالمية باردة، وفي كلا الحربين لم تكن المعارك لا خارجة على العقل ولا على قوانين الطبيعة. كل ذلك لا يعنى غياب عنصر البطولة والفداء والاستعداد للتضحية، ولكنه عند حضوره فإنه يكون جزءا من مكونات الطبيعة عندما تمتزج بعقول البشر وطموحاتهم.

المدهش أكثر أن السيد حسن نصر الله كان يحاول خوض معركة عاقلة تماما، فقد اعتمد على تجربة سابقة خطف فيها الجنود الإسرائيليون وتمت مبادلتهم بأعداد كبرى من السجناء العرب من جنسيات مختلفة، وعندما خطف الجنديين هذه المرة كان تقديره أنه سوف يخرج السجناء اللبنانيين فورا في أحسن الفروض أو بعد معركة قصيرة في أسوئها. وعندما لم يحدث أي من ذلك، وقررت إسرائيل تغيير قواعد اللعبة كلها، حاول الأمين العام لـ«حزب الله» أن يلقي بالمسؤولية على عاتق الدول العربية التى انتقدته لأنها كانت تعرف ـ عقليا أيضا ـ أن التجارب التاريخية لا تتكرر ـ بحذافيرها على الأقل ـ كما كانت تعلم مما كان يجرى في فلسطين أن الواقع في الشرق الأوسط وفي العالم قد بات مختلفا. وعندما وصل كل ذلك إلى سماحة الشيخ حسن كان هو أول من عرف التغيير في اتجاهات الريح فأعلن بلا لبس عن استعداده لقبول وقف إطلاق النار على ألا يكون وفقا لشروط «مذلة»، وبالتالي كان شيخنا على استعداد لقبول ما هو أقل من الذل الصريح، وهو القبول الذي تمت ترجمته ـ بإضافة نفوذ الدول العربية الرئيسية ـ بعد ذلك في قرار مجلس الأمن 1701 وفق النص الذي انتهى إليه المجلس وليس وفق النص الفرنسى ـ الأمريكي المهين. وعندما جعل «التعمير» على رأس أولوياته بعد وقف إطلاق النار كان سماحته مدركا أن ذلك إشارة للعدو بأن لا حرب بعد اليوم ـ على الأقل من جانب «حزب الله» – وإشارة إلى الصديق أن عهد الحسابات المغلوطة قد انتهى وآن أوان وضع القضية كلها في يد الدولة اللبنانية والدول العربية، وباختصار في يد من هم أكثر قدرة على الحسابات التي لا تستبعد لا الشعب اللبناني ولا الدولة اللبنانية من قرارات الحرب والسلام. ولم يكن هناك جنون للبطولة وإنما حسابات خاطئة لبشر يخطئون ولا يعترفون صراحة بأخطائهم!