العراق.. «يسألونك عن الأنفال»!

TT

كانت«الأنفال» في الذاكرة اسماً لسورة قرآنية بمعنى الغنائم، ومرادفاً لمفردات جميلة: هبة، وزهرة نورها «أصفر طيب الرائحة». وقد أخبرني أصدقاء نجديون: أن زهر النفل مشهور في براريهم، ويعد مظهراً من مظاهر الربيع، وهناك حي بمدينة الرياض يُعرف بحي النفل، أي حي الزهور. والنفل الثلاث ليالٍ من الشهر «بعد الغُرر»، الثلاث الأُوَل. ويشير العراقيون إلى الكريم (الخواردة) بالنفل. والنَّوفَل يعني «البحر»، والرجل المعطاء، والشاب الوسيم. واسم والد الرجل الجليل وَرقة هو نَّوفَل، وليس قليل من العراقيين مَنْ تسموا بنَّوفَل. هذا، وصلاة النَّوافل أشهر من أن تُعرَّف.

لكن، بعد عمليات الأنفال (شباط ـ أيلول 1988) نسخت تلك المعاني بمفردات: أَنفلَ (أباد)، وتأنفلَ، مؤنفل. وهناك وزارة بإقليم كردستان العراق عنوانها وزارة «الشهداء والمتأنفلين»! قال الشهود في محاكمة صدام وستة من المتهمين، وهم يصفون الأنفال: طائرات نشرت دخاناً وَلدَ رائحة تفاح عفن، بعدها حل الظلام!

استغرقت عمليات الأنفلة سبعة شهور، وهي قصف المناطق الكردية بقنابل السلاح الكيمياوي، وإثر ذلك عُرف نائب العريف السابق، والفريق أول اللاحق علي حسن المجيد بـ«علي كيمياوي» أو «علي أنفال». وكان لا يجيد سوى فعل الإبادة، سواء في كارثة 1988، أو انتفاضة آذار 1991، أو قتل أخيه وولديه: حسين وصدام كامل. وقد شاع آنذاك أنه أتى برأس ابن أخيه ورماه في حضن صدام، مثلما كان يفعل أمراء الحروب قديماً.

استبدل علي المجيد، قُبيل سقوط دولة البعث، ملابس القيادة الزيتونية بملابس تضفي على صاحبها شيئاً من التبغدد. وقد استقبلته دمشق مناضلاً بعثياً، وكان غرض الزيارة: الظهور على الشاشة مع صاحبة مطعم امتنعت عن استقبال زبونها الدبلوماسي الأمريكي! لا ندري بما يفكر الآن علي حسن المجيد، وهو يجلس في قفص الاتهام ذي الأرائك الوثيرة، وليس في قبر جماعي مثلما فعل بخصومه. ليس لشر هذا الرجل من حدود، رأيتُ من مخلفات الأنفال طمر عيون الماء النابعة من قمم الجبال، من غابر الأزمان، بالكونكريت المسلح. فرض العطش على بيئة خضراء منذ خلقها الله، وكأن وادي باليسان، وكل قرية من القرى الكردية هي قرية «سَدوم»!

ما تحفظه الذاكرة أن قريباً لي سمى ابنته: أنفال، تيمناً بالسورة القرآنية، وما عرضنا لنحوت المفردة من معانٍ جميلة، إلا أنه أُعدم في مارس 1980، ولم تبلغ أنفاله الثلاث سنوات بعد. وقبل عمليات «الأنفال» بثمان سنين، وكان آخر عهدي بها قبل عام من تاريخ إعدام والدها. وبعد إشاعة التسمية رسمياً على أنها من النِعم لا النقم. تغطت أنفال بالاسم، وأنست السلطة (جُرم) والدها الضابط (المتآمر)، يوم كان يطارد الأقربون حتى الدرجة الخامسة. لكنها، ضاقت باسمها بعد ملاحقة المتسببين بالكارثة.

وجدتها حائرة بين إرث والدها، وفي مقدمته اسمها، وبين إرث دولة البعث، الذي يشير إلى حملها لاسم نزوة قومية، وما صاحبها من مقابر جماعية، وتهجير إلى مجمعات سكنية تُذكر بالغيتوات النازية. إرث يرتقي إلى زمن طغاة من أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ): حبس الموالي في قرىً، مع وسم أيديهم. وهو «أول مَنْ نقش على يد كل رجل اسم قريته ورده إليها، واخرج الموالي من بين العرب» (العسكري، الأوائل). حتى قيل: «لو كان حياً له الحجاج ما سلمت... صحيحة يده من وسم حجاج». وقد فعلها نظام البعث: قطع الآذان، ووسم الأجساد بمفردة خائن أو جبان!

استخدمت مفردة «الأنفال»، بكل ما تعني من معانٍ: العطية، الزهرة، البحر، لتلبيس النعمة بفعل النقمة، وهي لا تقل عن مفردة المكرمة، التي اعتاد صدام منحها للعراقيين: إطلاق سجناء قتلة، تعويض أهل معدوم بالخطأ، تعويض ديار جرفت بأمره، تكريم منفذي «صولة الغضب» أو القتلة غسلاً للعار، لتأكيد تحول المدن إلى أرياف، ومحو ما عُرف قديماً وحديثاً بالتبغدد. استخدمت دولة البعث مفردة أنفال مثلما سبق أن استخدمت مفردة «حُنَين» اسماً لأول جهاز مخابرات رهيب، إلى تسمية القادسية، ثم الحملة الإيمانية. فمن ألقاب صدام التسع والتسعين: المؤمن! وما أن تسلم السلطة حتى وزعت شجرة عائلته المتصلة بعلي بن أبي طالب. ذلك للاستحواذ على الإمامة من الطرف السُنَّي «الأئمة من قريش»، ومن الطرف الشيعي الولاية في أبناء علي وفاطمة. وحسب القانون العراقي والعُرف البعثي أن صداماً كان معصوماً، وهناك عقوبات تصل إلى الإعدام لمَنْ يسيء لاسم الرئيس أو صورته.

أقول: لو تصورنا الأمر معكوساً، وكانت إبادة «الأنفال» من فعل زعامة كردية ضد شعب عربي، أيلام ذلك الشعب من النظر إلى الكردي أنه تأبط شراً! ألا يسره تقدم الأجنبي لتحريره من زعامة «الأنفال»؟ هذا مجرد تذكار للمثقفين العرب الذين رفضوا إدانة الكارثة حينها، وما زالوا يعدونها فعلاً بطولياً! ويوجهون بالمقالات والمحامين للدفاع عن مرتكبيها. ومجرد تذكار لفقهاء الإخوان المسلمين الذين أحجموا، يومها وما زالوا، عن إدانة استغلال اسم سورة قرآنية، في الأقل، لتبرير إبادة شعب!

كانت الأنفال جرحاً دامياً في وحدة العراق، ويتجاوز على الضمير الإنساني مَنْ يبررها دفاعاً عن حياض الوطن ضد هجوم إيراني. كان قتلاها كُرداً عراقيين، وليس من أثر إيراني بين الوديان المنكوبة، وليس من جندي إيراني أصيب بها، أو حتى اشتم رائحة التفاح العفن. لم يكن القصف الكيمياوي، بمكان، دفاعاً عن العراق وحدوده، بل إجراء من إجراءات تأبيد السلطة وخلودها، وإلا كانت معاهدة الجزائر (آذار 1975) بين صدام وشاهنشاه إيران تنازلاً صريحاً عن تراب ومياه!

كذلك لم تسمح الموازنات الدولية بانتصار إيراني أو عراقي، لذا ظلت الحرب، التي يتحمل صدام شروعها وروح الله الخميني استمرارها، سجالاً. نعم، كانت مآسي الحرب مناصفةً بين الرئيس المؤمن والولي الفقيه. أليس آية الله هو القائل في قبول قرار الأمم المتحدة 598 القاضي بوقف الحرب: «تسميم بارايه مان ايشون زهر كيشانده است»، ومعناه: «هذا القرار أشد قسوة عليَّ من تجرع كأس السم» (إيران بعد ربع قرن). ليس من العدل، بمكان، أن تعامل إبادة الأنفال، وكل الإبادات التي تعرض لها العراقيون، ذرائعَ لتلك الحرب، مع أنها كانت طبعاً من طبائع استبداد دولة البعث، حتى ضد البعثيين أنفسهم، إعدامات 1979 مثالاً. وبالمحصلة، أنها من مصاحبات الدولة القومية العرقية، أوالدينية، أوالمذهبية، والأمثلة لا تُعد ولا تحصى.