السياسة والموسيقى !

TT

بعض الكلمات مثل الأحجار في قاع النهر، ستبقى حية لقرون. فالماء يتدفق ويمضي ولكن الحجر يبقى.

والكلمات هي الظاهرة الأكثر فاعلية في العالم «ففي البدء كانت الكلمة»، ونحن نعرف الكثير من المفكرين والفلاسفة والفنانين ممن نشروا الكثير من الكتب ورسموا الكثير من الصور وألفوا الكثير من السيمفونيات، وبينها قليل من الكلمات أو الصور سيبقى.

أعتقد ان السياسيين يتحدثون كثيرا بلسان بلاستيكي أو لسان طبيعي، وفي بعض الأحيان تبقى كلماتهم حية. وأعني أن كلمات الدكتورة رايس حول الحرب بين اسرائيل ولبنان واحدة منها. قالت رايس ان الحرب كانت آلام ولادة الشرق الأوسط الجديد. وفي هذا الاطار فإنها من ناحية كونها موسيقية وعازفة بيانو ممتازة يجب أن لا تقول مثل هذه الكلمات، وكإمرأة يمكن ان تتحسس مشاعر الأمومة لتجد ان من الصعب تبسيط المذبحة كولادة. ومن ناحية ثالثة فإنها امرأة سوداء، وفي وجهها أو وجوه الناس السود نرى رمز الهجرة المريرة من افريقيا لأميركا. انها مجاز، على سبيل المثال لـ«ألكس هيلي» في كتابه المميز (الجذور) حيث ناقش هذا الموضوع.

آمل ان تكون رايس محظوظة بما يكفي لزيارة غور آيلاند في داكار، فقد كانت بوابة الهجرة من أفريقيا الى الولايات المتحدة، وقد جرت ملاحقة جميع السود في حقولهم وبيوتهم، وكان تجار العبيد يفصلون افراد كل عائلة عن بعضهم البعض ويرسلونهم الى أميركا بأسماء مستعارة، وقد مات معظم النساء والأطفال. وأعني ان أي اميركي اسود يمكن منطقيا أن يشعر ان اسلافه كانوا يعانون.

واعتمادا على كل هذه الأسباب، يجب على رايس أن تتجنب استخدام تلك الكلمات بسبب كونها اما عازفة بيانو أو امرأة سوداء. وقد نشأت في عائلة موسيقية، حيث كانت امها وجدتها وأم جدتها كلهم من الموسيقيين. وقد أحبت رايس الموسيقى، وأحبت تلك القطعة التي ألفها بيتهوفن تحت عنوان «يسوع على جبل الزيتون». وفي مقابلة مع غلبرت كابلان قالت ان أفضل ذكرى لها كانت الوقت الذي زارت فيه جبل الزيتون في القدس عام 2000. وذكر كابلان ان تنويعها مستمد من جذر موسيقي، ولهذا يتساءل المرء لماذا استخدمت رايس تلك الكلمة المريرة حول الحرب بين اسرائيل ولبنان ؟

ذلك وجه آخر للسلطة والسياسة الذي يفسد كل شيء. ويروي رشيد رضا في كتابه الشهير (حياة سيدنا الامام محمد عبده) ان عبده يقول «ما دخلت السياسة في شيء إلا وأفسدته». وهذه هي السياسة التي يمكن أن تغير العقول والرؤى، وبسبب ذلك قال كابلان لرايس بشكل صريح ان لديها شخصيتين. فكسياسية تتحدث رايس عن قتل الأطفال باعتباره آلام ولادة. ويمكننا الآن أن نسأل عن جوهر هذه السياسة التي تبرر قانا وصبرا وشاتيلا ؟ ما هي قواعد هذه السياسية؟ فجورج دبليو بوش يدعي ان السياسة والثقافة شيء آخر، وهو يعتقد أن مهمته كرئيس أميركي تتمثل في تغيير الثقافات. ويؤكد قائلا: «يمكنني ان اكون صوتا للتغيير الثقافي». وهل اعتمدت رايس على خطاب بوش امام محررين وكتاب في الشؤون الدينية في مايو عام 2004 لتخلق تعبيرا جديدا عن قتل الأبرياء ؟ ما هي النظرية التي تقف وراء هذا التفسير ؟

إنني احاول ان اجد جذر هذا التغير الثقافي. وقد وجدت القاعدة السرية لادارة بوش: الغاية تبرر الوسيلة، وهي القاعدة المكافيلية الشهيرة. وفي الأيام الحالية وبعد ان حقق المحافظون الجدد الفوز نشهد أن قصة ميكافيلي تتحكم بعقول المحافظين الجدد. وكان ليدن، وهو أحد المحافظين الجدد المتطرفين، وزوجته باربرا كانا جزءا من «مشروع هرمجدون» لإعادة بناء المعبد في القدس على الحرم الشريف. ونشر ليدن كتابا عن ميكافيلي، درس فيه علاقة الزعامة الحديثة بميكافيلي، ولماذا تعتبر قواعده الحديدية راهنة وهامة كما كانت قبل خمسة قرون. وتعتبر القاعدة الأولى الحديدية الأشهر في نظرية ميكافيلي هي «الغاية تبرر الوسيلة». اما القاعدة الثانية القوة صحيحة، فعندما تكون لديك قوة يمكنك تفسير ومعرفة العادل والصحيح اكثر من أي زعيم آخر في العالم. ويتحدث جورج بوش عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، ولكن يجب علينا ان ننظر الى يديه وليس دموعه من أجل الحرية. واعتمادا على الرؤية الأميركية يجب ان تكون اسرائيل سيدة الشرق الأوسط، ويجب ان تكون جميع البلدان والحكومات تحت رعاية اسرائيل كما قال نتانياهو: في مكان ما تحت الشمس يجب علينا ان نتعلم من اسرائيل كيف ندير بلداننا. وبالتالي فان علينا أن نقبل كل آلام ومعاناة الولادة ! مستقبلنا سيكون مشرقا جدا ! وقانا هي مجاز لذلك الطفل الأميركي العزيز، الشرق الأوسط الجديد. وبسبب ذلك فان رايس الموسيقية قتلت على يد رايس السياسية الميكافيلية.