مريم «الفرنساوية»

TT

كتبت لكم ذات مقال عن «خواجة يني» وهو أحد الأوروبيين القلائل الذين كانوا يعيشون في مدينة جدة قبل نحو نصف قرن. واليوم سأحدثكم عن شخصية شهيرة أخرى عاشت في هذه المدينة منذ عقد الأربعينات من القرن الماضي حتى توفاها الله قبل نحو شهر، فلقد جاءت «مريم الفرنساوية» ـ وهو الاسم الذي اشتهرت به هنا ـ من بلدها النمسا إلى جدة يوم كانت المدينة لا تزال تعيش داخل سورها العتيق في مساحة كيلومتر مربع واحد.. كانت لا تزال في مقتبل العمر، وتحمل تدريبا طبيا للعمل كقابلة، فمنحها الناس هنا لقب دكتورة، في زمن لم تألف فيه المدينة حتى ذلك الوقت المستشفيات ولا الأطباء..على يديها رأى النور نحو ثلث مواليد هذه المدينة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حتى غدت من أشهر شخصيات هذه المدينة وجزءا من تاريخها وتراثها.

حينما عينت في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي رئيسا لتحرير مجلة سعودية كلفت من المحررات من يبحث عن هذه الشخصية في عزلة شيخوختها لإجراء حوار معها حول تجربتها الفريدة في هذه المدينة.. وبعد بحث طويل عثرنا عليها لنكتشف أنها قد غدت جدة يحيط بها أحفادها السعوديون، وتعيش حياتها في دعة وسكينة وسلام.. يومها حدثتنا كيف استطاعت هذه المدينة البسيطة، التي كانت تستضيء بـ«الفوانيس» ومشاعل «الكيروسين»، والتي تتدثر بسورها عند المغيب لتنام مبكرا كما تنام العصافير، أن تجذبها من عالمها الأوروبي، وأن تجد في رحابها الطمأنينة التي كانت تبحث عنها.. قالت لنا إنها كانت تخرج إلى ضواحي جدة وبواديها بعد منتصف الليل على ظهور الدواب لتعين بعض الحوامل الفقراء على الولادة، وكثيرا ما كانت تحصل على أتعابها حبات من البيض أو قدرا من اللبن المجفف.

لقد استطاعت تلك السيدة الأوروبية في زمن التسامح أن تجد في سلوك الناس القدوة والصدق ومكارم الشيم، فأقبلت بفطرتها على الإسلام مؤثرة أن تنشئ في ظله أسرة هانئة سعيدة آمنة، لتقضي في هذه المدينة سنوات عمرها المديد محاطة بحب الناس وتقديرهم.

أكتب اليوم عن مريم «الفرنساوية» والتلفزيون يبث أمامي خبر صحافيي قناة فوكس المختطفين في غزة، وكيف فرح الخاطفون بإسلامهما تحت فوهة البندقية. فلم أجد أمامي سوى أن أترحم على زمن كان الناس يقبلون فيه على الإسلام حينما كان السلوك المثالي للمسلمين يشكل بوابة الدخول لهذا الدين العظيم.. فسبحان الله كيف كنا وكيف أصبحنا.

[email protected]