نجيب محفوظ.. موت آخر العمالقة الكبار

TT

أتذكر أني عندما سمعت بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 تملكني شعور بالفرح العارم وقلت بيني وبين نفسي: إذن فإن اللغة العربية بخير وتستحق جائزة نوبل والاعتراف الكوني بآدابها وليست لغة ميتة أو محنطة كما يحاول أن يوهمنا بعض المستشرقين هنا.. كان هذا أول شعور ينتابني، وكان من القوة بحيث أني تركت القلم والورقة وكنت جالسا وراء الطاولة فاستلقيت على السرير لكي «أبلع» النبأ وأستمتع به الى أقصى حد ممكن. نعم لقد طرحني الخبر أرضا كما يقال لأني كنت فعلا في حيرة من أمري تجاه مشكلة الفصحى والعامية والازدواجية اللغوية الصارخة، وكنت خائفا على لغتنا العربية. ومعلوم ان محمد حسين هيكل باشا مؤسس الرواية العربية من خلال «زينب» كان يدعو الى استخدام العامية، ولكن فقط في الحوار. وأما عميد الأدب العربي طه حسين فكان لا يبيح ذلك شرعا وإنما يطالب بالفصحى في كل أجزاء الرواية وأنواع الكتابة أيا تكن.

ثم جاء نجيب محفوظ بعدهما مباشرة لكي يعطينا ثقة بأنفسنا وبلغتنا ومقدرتها على التطور، فاستخدم لغة كلاسيكية مبسطة أو حديثة. لأني اطلعت مؤخرا على مقالة لإدوارد سعيد عنه وكان قد نشرها قبل سنوات قليلة من موته تحت عنوان: «نجيب محفوظ: قسوة الذاكرة» (مجلة نيويورك لعرض الكتب 30 نوفمبر 2000). وفيها يقول بأنه عرض عام 1980 على ناشر من نيويورك أن يترجم روايات نجيب محفوظ الى الإنكليزية لكي يتعرف عليه الجمهور الأميركي. وكان هذا الناشر يبحث آنذاك عن أدب العالم الثالث لكي يضمه الى لائحة منشوراته. ورحب الناشر بالفكرة وتحمس لها. ثم فجأة تراجع عنها. وعندما سألهم ادوارد سعيد عن السبب قالوا له: العربية لغة إشكالية وأدبها بالتالي لا يستحق النشر في اللغات العالمية..!

لقد انتقم لنا نجيب محفوظ من هؤلاء الذين يستسخفون بلغتنا وأدبنا شر انتقام ـ أو خير انتقام ـ عندما نال جائزة نوبل للآداب. واثبت للعالم كله ان اللغة العربية هي لغة آداب حية.

فبفضل نجيب محفوظ وأمثاله من المبدعين العرب الكبار جددت لغتنا شبابها ونفضت غبار الزمن عن نفسها ولم تعد متقعرة لا يفهمها الا شيوخ الأزهر. هذه اللغة الوسطى التي هي لا عامية ولا فصحى متشدقة هي التي أنقذت لغتنا العربية من خطر الانقطاع عن نسغ الحياة، وبالتالي من خطر التحنط فالموت.

من يشعر بأنه يقرأ لغة منقطعة عن نبض الحياة عندما يغطس في روايات نجيب محفوظ؟ ألا يفهمها طالب الثانوي، وأنا شخصيا قرأت الثلاثية في الثانوي، من أقصى بلاد المغرب الى أقصى بلاد المشرق وما بينهما؟ من يستطيع ان يمسك بالثلاثية من دون أن ينهيها على الرغم من صفحاتها الألف وخمسمائة؟

لكن عظمة نجيب محفوظ لا تعود فقط الى الاسلوب بالطبع، وانما تعود الى المضمون ايضا. وهنا نلاحظ انه جسّد على مدار تاريخه كل قيم التقدم، والعقلانية، والليبرالية، والعدالة الاجتماعية، والتسامح الديني، والنزعة الإنسانية. لقد عابوا عليه انه انتقد نظام عبد الناصر ورحب بالسادات، بل وافق على كامب دافيد ومعاهدة السلام. ولكن ماذا تريدونه أن يفعل؟ لقد شعر بحدسه العبقري ان التاريخ العربي أصبح مسدودا ويدور في حلقة مفرغة. وبالتالي فلا بد من فتحة بشكل أو بآخر، وشعر أيضا ان تقدم الشعوب العربية وفي طليعتها الشعب الفلسطيني لا يمكن ان يتحقق إلا إذا وضعنا حدا لهذا الصراع الذي استنفد كل الطاقات وأصبح عالة على حركة التاريخ في العالم العربي. ولذا فان نجيب محفوظ كان يعتقد بضرورة تغيير آلية الصراع أو أشكاله مع هذا العدو الجهنمي الذي يسيطر على التكنولوجيا الحديثة بما لا يقاس. كان يعتقد ان الشعب الجاهل الأمي الفاقد الحرية والكرامة لا يمكن ان ينتصر على شعب متعلم، مثقف، يستطيع ان يفتح فمه ويحاسب قادته متى شاء. وبالتالي فلنبتدئ بتعليم الشعوب العربية وإدخالها في جنة الحداثة والتقدم وبعدئذ نستطيع ان نطالب بالانتصار. بعدئذ تصبح مشكلة إسرائيل تحصيل حاصل: أي تنحل من تلقاء ذاتها. فالفضاء العربي الواسع بملايينه الثلاثمائة يستطيع ان يدحر أي عدو إذا ما ارتفع الى مستوى الشعوب المتحضرة وحل مشكلته مع نفسه ومع التكنولوجيا. لهذا السبب فإن إشكالية التخلف والتقدم كانت تشغل معظم روايات نجيب محفوظ وكتاباته.

بهذا المعنى يمكن القول بأنه آخر الليبراليين الكبار في العالم العربي. انه آخر جيل العمالقة المتمثل بأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وعشرات غيرهم. انه ينتمي الى ذلك الجيل الذي لم يكن مشوها من الناحية الآيديولوجية: أي لم يكن مصابا بمرض الديماغوجية السياسية على طريقة القومجيين أو الماركسيين أو الأصوليين. وهو الجيل الذي انقرض من الساحة العربية بعد إغلاق العصر الليبرالي العربي والتعددية الحزبية على يد جمال عبد الناصر. وإذ أقول هذا الكلام فإني لا أريد إن أنفي كل ميزة ايجابية عن زعيم القومية العربية. فالرجل له مكانته التي لا تنكر في تاريخنا. ولكننا مضطرون للاعتراف بأن قيم الليبرالية، والتعددية الفكرية، وحق الاختلاف، والإبداع الحر خارج نطاق كل القوالب الآيديولوجية والشعارات ماتت بعد الخمسينات أو تقلصت الى حد كبير. لهذا السبب نشعر بأننا أصبحنا يتامى بعد موت نجيب محفوظ حتى ولو بعد عمر طويل.. ولكن هل يموت من كتب «الثلاثية»، و«أولاد حارتنا»، و«اللص والكلاب»، و«ثرثرة فوق النيل»؟ هل يمكن أن يموت بلزاك الرواية العربية ومؤسس مجدها وعبقريتها الكونية؟!