صدام حسين والذبابة

TT

في إحدى جلسات محاكمة صدام حسين، لاح لي انه كش بيده الآثمة ذبابة عن وجهه. بالطبع ان هذه الذبابة أدركت أن هذا الرجل لم يعد البطل الهمام لتخشى بأسه. فحطت عليه وربما ذرقت عليه. بيد أن صديقي جليل العطية، روى في كتابه «فندق السعادة» ان ذبابة اخرى، ربما أم أو جدة هذه الذبابة قد تجرأت وحطت على وجهه حتى عندما كان الرئيس المقتدر لجمهوريته الخالدة. هكذا ظهرت على شاشة التلفزيون الفرنسي مكبرة واضحة للعيان. وحسب ذاكرتي، لم يسفر ذلك عن قطع العلاقات بين البلدين او اتهام التلفزيون الفرنسي بالعمالة للكيان الصهيوني. بقيت العلاقات وطيدة رغم ما قامت به تلك الذبابة.

ربما سمح بذلك كدليل يظهر للفرنسيين مدى تمتع العراقيين بكامل حرياتهم. فها هي الذبابة العراقية تستطيع ان تتحرك وتمشي كما تشاء. تطير بدون فيزة، وتطنطن بدون رقابة.

الحقيقة ان الذبابة هي المخلوق الوحيد في اكثر بلدان الشرق الأوسط الذي يتمتع بكامل الحرية. فهي تتنقل حيثما شاءت وتقيم حيثما طاب لها ان تقيم وتأكل كل ما يعجبها دون فتوى من احد، وتطنطن برأيها دون خوف من السلطة. الذبابة هي المخلوق الذي يتمتع عندنا حقا بحقوق الانسان رغم كونها حشرة. وهذا شيء تستطيع فيه السلطات ان تتبجح به وترد على تخرصات الصهاينة فتقول اننا امة، ربما الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي تحترم حقوق الحشرات وتسهر على أمنها وسلامتها وتوفر لها كل ما يلزمها من طعام وسكن يليق بها. لم تثر هذه الذبابة على وجه صدام حسين ذكرى ما كتبه جليل العطية عنها فقط، وإنما اعادت الى ذهني كذلك ما قاله ابو فراس الحمداني في قصيدته الشهيرة عن الحمامة، عندما كان في السجن ايضا:

اقول وقد ناحت بقربي حمامة

ايا جارتا لو تشعرين بحالي

صدام حسين رجل بتاع كله. في أيامه الأخيرة أصبح روائيا أيضا. المهنة الوحيدة التي لم يدع بها ويبز بها كل الآخرين، ويصبح أمير الشعراء هي قول الشعر.

ومع ذلك، وقد خطر لي وهو في سجن ابو غريب الآن، والقمل يعشعش في رأسه والبراغيث تتعشى بدمه، والذباب يطن من حوله ان يتذكر ما قاله ابو فراس الحمداني فيرتجل ويقول:

أقول وقد طنـّت بقربي ذبابة

أيا جارتا لو تشعرين بحالي

معاذ البلى، ما ذقت اطواق الأسر

ولا خطرت منك السجون ببال

ايا جارتا ما انصف الغرب بيننا

تعالي اقاسمك السنين تعالي

تعالي تري ذقنا لدي منتفا

وشعرا مشيبا صبغه كمحال

ايضحك مهزوم وتبكي عزيزة

ويسكت مسجون، يطنطن سالي

لقد كنت اولى منك بالطن ساعة

ولكن خلقي مثل خلق «زمال»