نجيب محفوظ : قسوة الذكرى .. وآفة النسيان

TT

نشر ادوارد سعيد مقالة عن نجيب محفوظ في 6 ديسمبر عام 2001، كان عنوانها: نجيب محفوظ وقسوة الذكرى. وصف فيها عالم روايات نجيب محفوظ بأنه عالم حيوي تنتشر فيه الحركة، ويبدو اننا نرى رواية اكثر من مجرد كلمات. هذه هي الصور التي تواجهنا. ومثلما يحدث في السينما تتحدث الينا الصور. وبعد الاطلاع على القصة، يمكننا الاستماع الى اصوات كل الاشخاص، الى اصوات الرواية، اصوات قسوة الذكريات. وعندما ننتهي من الاطلاع على رواية مثل «اولاد حارتنا» يصعب نسيانها. جبلاوي ورفيعة وقاسم، يعيشون كلهم بداخلك للأبد. وهي تعني ان العالم الذي خلقته روايات نجيب محفوظ يندمج مع قلبك وعقلك، لا يمكنك الهرب من الرواية، ولا تجاهل الذكريات.

تخرب الذكرى قلبك وعقلك اولا، ثم تعيد تشييدهما مرة اخرى. وفي وسط الجحيم تشتم رائحة العطور المنطلقة من الجنة. وفي بعض الاحيان، يقترح الراوي الاحداث او يتكهن بالمستقبل، مثل الحصان عندما يشعر بالزلزال قبل وقوعه. وعندما نشر نجيب محفوظ رواية الحرافيش، ذكر البعض لعبد الناصر ان الرواية ضده. ولذا طلب عبد الناصر من ثروت عكاشة الاطلاع على الرواية وتقديم وجهة نظره. وذكر ثروت عكاشة لعبد الناصر ان الرواية ليست ضده ولا ضد الحكومة، وان نجيب محفوظ ليست لديه اية نوايا سلبية، او رغبة في مضايقة عبد الناصر. ولكن هذا عمل ادبي، وبدون انتقاد الاوضاع السياسية والاجتماعية سيموت الادب، وقبل ناصر نصيحة عكاشة. وبعدما واجهت مصر كارثة مريرة، أي حرب 1967، ذكر العديد من الناس ان نجيب محفوظ كان محقا، لقد قادنا سائق القطار الى كارثة، لان السائق لم يكن ماهرا وفي النهاية دمر القطار وقتل كل الركاب. وعندما ناقش جورج اورويل رواية الحقيقة قال:

الحرب هي السلام .. والحرية عبودية.. والجهل قوة ..

اوضح ذلك بقوله «تحتوي وزارة الحقيقة على ثلاثة آلاف غرفة ومثلها تحت الارض...» وركز على الذاكرة العالمية بإنه يمكن لكل شخص العثور على نموذج خاص في المجتمع.

لقد روى نجيب محفوظ ذاكرة تاريخية، ننساها. ان افضل واهم الذكريات بالنسبة للانسان هي ذاكرة الدين، ففي «اولاد حارتنا» يروي نجيب محفوظ هذه الذكرى، وما حدث للمؤمنين، وتطور الدين. ونشاهد، في الوقت الراهن، الهوة الضخمة بين الاسلام وتوجه طالبان، وبين اليهودية وما يحدث بإسم الدولة اليهودية في قانا في لبنان. وبين عيسى المسيح والمحقق في الاخوة كارامازوف، التي كتبها دوستويفسكي.

لماذا تكررت هذه العبارة كثيرا في «اولاد حارتنا»: « لكن آفة حارتنا النسيان» (ص 210) ، «لماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟» (ص 305) ، «وقال كثيرون انه اذا كانت آفة حارتنا النسيان فقد آن لها ان تبرأ من هذه الآفة، وإنها ستبرأ منها الى الابد» (ص 443). «فبثوا العيون في الاركان وفتشوا المساكن والدكاكين، وفرضوا اقصى العقوبات على اتفه الهفوات وانهالوا بالعصى للنظرة او النكتة او الضحكة، حتى باتت الحارة في جو قائم من الخوف والحقد والارهاب. لكن الناس تحملوا البغي في جلد، ولاذوا بالصبر، واستمسكوا بالامل، وكانوا كلما اضر بهم العسف قالوا: لا بد للظلام من آخر، والليل من نهار، ولنرين فحارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب» (ص 552).

كان نجيب محفوظ يعلم كيف يصف وينشر الذكرى افضل من أي شخص اخر في الماضي او الحاضر. آفة حارتنا وبلادنا وعالمنا الاسلامي النسيان، وهذه مسؤولية الكاتب لإيقاظ أمته. وكنت افكر بخصوص عنوان ادوارد سعيد، لماذا قال «قسوة الذكرى». وتذكرت ان شابا هاجم نجيب محفوظ في عام 1995 واصابه في رقبته وذراعه. ونشر انور الجندي مقالة في مجلة «الشرق» الناطقة باسم جماعة الاخوان المسلمين في مصر ووصف نجيب محفوظ بأنه عدو الاسلام... كان ذلك ثمن تذكر الذكرى في الحارة التي يفضل الجميع نسيانها.

وأخيرا, تحتاج كل امة وكل لغة الى شخص يصبح رمزا لتاريخه وثقافته، مثل دوستويفسكي بالنسبة للروس وبلزاك بالنسبة للفرنسيين وديكنز بالنسبة للثقافة الانجليزية، وعندما نريد تذكر مصر ولا سيما القاهرة، ونريد السير في حواريها، يجب قراءة روايات نجيب محفوظ، واذا ما اردنا تذكر تاريخنا المهمل، يجب علينا قراءة «اولاد حارتنا».