حديث من البحر الأحمر

TT

أتيح لي في الأسبوع الماضي قضاء بضعة أيام في مدينة شرم الشيخ الرائعة، التي تبهر كل من يزورها بجمالها ورونقها وسكانها والعاملين في فنادقها التي ترحب بالسائحين من كل أنحاء الأرض، وقد قابلت عدداً من الزائرين الفلسطينيين والأميركيين والكنديين والإسرائيليين مما أتاح فرصاً لأحاديث ومناقشات استخلصت منها بعض النقاط يهمني أن أوردها في هذا المقال لأنها تضيف إلى الصورة التي تجمعت لدينا على ضوء الأحداث الأخيرة في المنطقة، ولا أعتقد أني في حاجة كل مرة إلى أن أورد ردودي أو تعليقاتي فهي معروفة ولم تتغير سواء في كتاباتي أو أحاديثي الصحافية أو التلفزيونية على اختلاف المواقع التي كنت أشغلها أو المناصب التي توليتها. وأقول هذا في هذا العام تعليقاً على سؤال ردده بعض قراء مقالاتي ومفاده: لماذا لا يعبرالمسؤلون عن آرائهم إلا بعد أن يتركوا مناصبهم. وهو سؤال قد ينطبق على البعض ولكني أقول بضمير مرتاح انه ظلم فيما يتعلق بي. فمواقفي لم تتغير إلا بالقدر الذي قد تؤثر فيها الأحداث وليس بحكم الواقع. ولكن الذي يحدث هو أني كنت أعرب عنها ـ عندما كنت أتولى مسؤولية ـ في الغرف المغلقة واللقاءات الرسمية والمشاورات السياسية ولم يكن من المنطقي أو المتصور أن أتحدث بها علناً بنفس اللهجة والصراحة والوضوح وربما الحدة، فهناك قواعد وتقاليد وأصول تقتضي المسؤولية ـ أياً كانت درجتها ـ مراعاتها، ولكني ابداً لم أصرح علناً بما يخالف ضميري أو يناقض ما أنا مؤمن ومقتنع به. وأذكر أني سئلت مرة بعد محاضرة في الجامعة الأميركية بالقاهرة عن الدبلوماسية فقلت أن الدبلوماسي يجب ألا يقول إلا الحقيقة ولكن ليس معنى ذلك أن يكون عليه في كل مرة أن يقول كل الحقيقة.

وبعد الأسف على هذا الاستطراد الذي كان يلح علي منذ فترة واجهت خلالها السؤال الذي أشرت إليه متضمناً لوماً صديقاً أحياناً واستنكارياً أحياناً أخرى، وبعد الاعتذار عن الحديث عن النفس وهو أثقل ما يكون عليها، أعود إلى الأحاديث التي جرت مع بعض من قابلتهم وهم ليسوا جميعاً ممن مهنتهم السياسة أو الدبلوماسية، بل بينهم رجال أعمال وصحافيون ومسؤولون سابقون ولكنهم كلهم مهمومون بأحوال أوطانهم والعالم الذي تقلقهم فيه اتجاهات وتطورات لا تبشر بخير بل تنذر بمزيد من الأحداث المؤلمة والأوضاع غير المريحة. وألخص ما سمعت في النقاط التالية:

1 ـ كان هناك توافق عام على أن ما قامت به إسرائيل في لبنان كان رد فعل من يشعر بضعفه، فأولمرت كان يشعر بعقدة أنه خلف شارون الذي كانت صورته صورة العسكري القوي التي تؤهله لاتخاذ خطوات محسوبة حتى في تهورها، وبيريتس وزير الدفاع الذي ليس لديه سوى خبرة نقابية يريد أن يثبت أنه يستطيع أن يلعب دور «الفتوة»، ولذلك كان ردهما على حادث حدود سبق أن حدث مثله، رداً متهوراً لا علاقة له بالإفراج عن الأسيرين الذي كان يمكن أن يتحقق بالأسلوب الذي سبق اتباعه. وعملت حكومة إسرائيل على أن توسع الهدف من موضوع الأسرى إلى القضاء على حزب الله وهو هدف مستحيل . وكانوا يتصورون أن العنف البالغ والتدمير سوف يكشفان أمام الشيعة عدم قدرة الحزب على حمايتهم، ويستنفر العناصر غير الشيعية لاتخاذ مواقف مؤيدة للقضاء عليه. وبذلك يعمقون نزاعا يتمنونه بين الطوائف والفرق الاسلامية.

ولم يدرك الإسرائيليون أن وجود حزب الله هو جزء من توازنات داخلية لبنانية، وان سلاحه لم يوجه إلى عناصر لبنانية وان هالة مقاومته لإسرائيل وحملها على الانسحاب في الماضي من جنوب لبنان تعزز وضعه على المسرح السياسي اللبناني. وبالتالي فإن أي غضب من عمليات التدمير ـ حتى إذا أصاب رزازه حزب الله فإن أغلبه ستتحمله إسرائيل. ونتيجة لذلك فإن الحكومة الإسرائيلية لم تستطع أن تحقق هدفها، وهو بكل المقاييس، خاصة المقاييس الإسرائيلية لاستخدام القوة هزيمة نرى تداعياتها على الساحة الداخلية في إسرائيل.

2 ـ موقف الولايات المتحدة التي أعطت قرارا بوقف إطلاق النار واعطت المهلة بعد المهلة لإسرائيل لكي تنتهي من مهمة تدمير حزب الله كانت تنطلق ـ علاوة على تأييدها المطلق لكل ما تفعله إسرائيل حليف المحافظين المتطرفين الذين يستحقون فعلاً وصف الفاشيين ـ كانت تنطلق من اقتناعها بأن هزيمة حزب الله هي هزيمة لسوريا وإيران إلى درجة قد تغني عن اتخاذ إجراءات عنيفة تدفع إليها بعض الدوائر القريبة من الحكم في واشنطن المولعة باستخدام القوة لتأديب العالم.

3 ـ ويعلق بعض الأميركيين على ذلك بأن الولايات المتحدة بهذا الأسلوب ترتكب الخطأ بعد الخطأ، وتقع في المأزق بعد المأزق. فقد فشلت أهدافها في أفغانستان والعراق التي ادعت أنها تتمثل في بناء دول ديمقراطية نموذجية. وكانت نتيجة مغامراتها غير المحسوبة في الدولتين أن دعمت وضع إيران، بالقضاء على نظامين مناوئين لها. وخلص الأميركيون من ذلك إلى نقد لاذع للإدارة الأميركية التي تتحكم فيها عناصر غير مؤهلة.

وإن كان بعضهم أشار إلى أن علامات تضاؤل تأثير نائب الرئيس تشيني بعد انكشاف سوء تقديراته ودفعه الأمور في اتجاهات خاطئة، وأن ميل كوندوليزا رايس إلى مزيد من التفهم لحقيقة الأوضاع، إضافة إلى احتمال عودة الرئيس بوش الأب إلى دائرة التأثير على الرئيس الحالي... كل هذا قد يؤدي إلى بعض التحولات في الموقف، وإن كان من المشكوك فيه أن تؤدي إلى تحسن حقيقي.

4 ـ وعلى ذكر سوريا، فقد شعرت أن بعض الإسرائيليين يرون أن حكومتهم قد تكون مستعدة لاستئناف الحوار معها ولكنها تتصور ان واشنطن سوف تعارض ذلك، لأن هدفها هو تغيير النظام السورى. وفي هذا الصدد أشار الإسرائيليون إلى أن رؤساء وزراء سابقين كثيرين لإسرائيل كانوا يقدرون أن الاتفاق مع سوريا ممكن وانهم حاولوا بالفعل وكادت الامور في بعض الأحوال تصل إلى حل لولا اعتبارات ما زال يلفها الغموض.

وعلى ذكر سوريا ايضاً وبينما أكتب هذا تلقيت الأنباء عن حدوث انفجارات في دمشق يبدو أنها تستهدف السفارة الأميركية. ويثير هذا الامر شبهات كثيرة حول حقيقة ودوافع ما حدث والذي أعتقد لأول وهلة أنه جزء من عملية أكبر ترتبط بمخططات قد لا يكون من الصعب معرفة مصدرها.

5 ـ وبالنسبة لفلسطين فكان هناك شعور لدى بعض من تحدثت إليهم أن المبادرة بمقاطعة حكومة هنية دون إعطائها فرصة لكي تستقر وتدرس ملفاتها وتتأقلم مع متطلبات ممارسة السلطة التي تختلف بالطبع عن متطلبات المقاومة. كما كان هناك تقدير لدى البعض القليل أن فتح لم تتمكن من أن تستوعب خسارتها الانتخابات لأسباب معقدة وأن تقبل الدخول في ائتلاف لعله كان يمكن أن يجنب الفلسطينيين المعاناة الإضافية التي واجهوها خلال الأشهر الستة الماضية. وهنا ايضا فقد تطورت الامور منذ تلك الأحاديث واتفق الفلسطينيون على ما كان يجب ان يتفقوا عليه منذ البداية وهو تشكيل حكومة وحدة وطنية بالشكل الذي يسمح باستئناف المفاوضات مع إسرائيل، ومع ذلك فهناك شكوك في نوايا إسرائيل وشعور بأنها سوف تجد دائماً الحجج لاستمرار رفض التسليم بالحقوق الفلسطينية وانها ستواصل استفزازاتها وعدوانها طالما انها تعتمد على التأييد الأميركي.

6 ـ وقد لفت نظري أن أحد الإسرائيليين ـ الذين اعتقد انهم من المقربين الى اعماق الحياة السياسية الإسرائيلية أبدى رأياً مفاده أن وجود قيادات وصفها بالضعيفة في كل من سوريا ولبنان وفلسطين واسرائيل والولايات المتحدة، قد يتيح فرصة حقيقية لتحقيق التسوية التي يحتاجها كل منهم لدعم موقفه. وأنا شخصياً أجد صعوبة في الموافقة على هذا التحليل، إذ بصرف النظر عن صحة او خطأ التوصيف بالنسبة للزعماء الذين ذكرهم، فإن إقرار التسوية يحتاج في تقديري على الأقل إلى زعامات قوية تستطيع أن تقنع شعوبها وتقودها نحو تسوية تتطلب بالضرورة شجاعة الاقوياء بالإضافي إلى اقتناعي بأن إسرائيل ـ أياً كانت حكومتها ـ غير راغبة في أية تسوية حقيقية عادلة، مع ان هذه التسوية هي الأساس الذي يمكن عليه بناء الامن والاستقرار للمنطقة. وفي هذا الصدد فإني أذكر مقالاً قرأته في الشهر الماضي في جريدة أميركية جاء فيه: إن المشكلة الجوهرية هي فلسطين قبل أن تكون موضوع عملية حزب الله والأسرى، خاصة وان إسرائيل سبق لها ان قبلت التفاوض على تبادل الأسرى. وأضاف المقال انه مهما كان الحكم على ما فعلته المقاومة، فإنه لا يمكن أن يقارن برد الفعل الإسرائيلى فليس هناك مقارنة أخلاقية بين الاثنين NO MORAL EQUIVALENCE

هذا قليل من أحاديث كثيرة قد يكون فيها المفيد وما يشحذ الفكر ويرد على كثير مما شهدناه في الفترة الماضية من تعام عن الحقائق وانحياز تام وغير مبرر لنظريات يحاول البعض أن يجعلونا نبتلعها مع ما تحويه من سموم.

وختاماً أود أن أشير إلى أن جميع من تحدثت معهم كانوا يشيرون إلى ان مصر هي المؤهلة أكثر من غيرها لأن تضطلع بالدور الأكثر نشاطاً والأكثر فعالية لدفع الامور في اتجاه أقل خطورة وربما أكثر إيجابية لتحقيق الأمن والعدالة وبالتالي السلام في صالح الجميع.