الدرس المستفاد من 11 سبتمبر

TT

العالم العربي الإسلامي يستبطن ذاكرة حية لتاريخ هو الأمجد ويعاني من حاضر هو الأنكد.

الاستعمار الغربي والشرقي ظاهرة عمت شعوب «العالم الثالث» كلها تقريبا ثم انحسرت في وجه مقاومة الشعوب وعوامل الضعف التي أصابت الدول الاستعمارية نفسها. ولكن التخلي الاستعماري ترك في العالم الإسلامي بؤرا ملتهبة وجروحا نازفة في عدد من البلدان.

والعرب دون سواهم تعرضوا لخدعة تاريخية: اتفاقية سايس بيكو الشهيرة. وتعرضوا دون سواهم لطعنة تاريخية: غرس إسرائيل في دارهم.

أنعش اكتشاف البترول ماديا بلدانا كثيرة عربية وإسلامية ولكن «جائزة» النفط جعلت المنطقة هدفا للهيمنة الدولية لأن النفط سلعة استراتيجية تدخل السيطرة عليها في معادلة التنافس على مصير العالم.

الحداثة ونحلتها العلمانية هيمنت على العالم منذ نهايات القرن التاسع عشر. ومنذ الثلث الأخير للقرن العشرين حركت ضدها انبعاثا أصوليا في كل الأديان حماية لعقائدها وقيمها.

الكمالية في تركيا رائدة الأصولية العلمانية نجحت في وقتها لظروف أحصيناها في مكان آخر، ولكنها حركت على الصعيد الشعبي ردود فعل مضادة في كل العالم الإسلامي.

الشاهنشاه في إيران طبق «كمالية» في إيران في ظروف مختلفة فأشعل ضده الثورة الإسلامية الإيرانية.

الاستعمار السوفياتي خشي آثار الثورة الإسلامية في إيران على مستعمراته ومناطق نفوذه فأقدم على غزو أفغانستان. وغزو أفغانستان ألهب المشاعر الجهادية الشعبية إلهابا وجد في ظروف الحرب الباردة دعما أميركيا واسعا.

* دُحر الغزو السوفياتي، ولكن الجهاديين أخفقوا في تقديم بديل مستقر فاندفعت حركة طالبان الشعبوية تملأ الفراغ.

* تنظيم القاعدة من إفرازات الجهاد في أفغانستان.

* طالبان والقاعدة كلاهما من مواليد المشهد الأفغاني وكلاهما حظي في البداية بدعم أميركي.

* طالبان ظاهرة شعبوية إسلامية قبلية أفغانية. لكن القاعدة ظاهرة شعبوية أممية ولدت في رحم الجهاد الأفغاني ولكنها زخرت بالأشواق للماضي المجيد واستعدت لإزالة العقبات في الطريق إليه. العقبات في نظرها هي نظم حاكمة وأميركا الداعمة لها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. القاعدة وحلفاؤها نصّبوا أنفسهم مدافعين عن قضايا مقبولة على نطاق واسع بأساليب غير مقبولة. القاعدة جودت صناعة الغضب. حادث الثلاثاء 11/9/ 2001م قمة منتجاتها.

وكان طبيعيا أن ينفعل الأميركيون ضد الحدث ووجدوا تعاطفا عالميا واسعا. ولو تصرفت أميركا بما عندها من رصيد فكري وثقافي لاستطاعت أن تدرك ما وراء الحدث وأن تتعامل مع الأسباب لا الأعراض ولاستطاعت أن تجعله «غضبة مجروح» وأن تعزله تماما. ولكن الإدارة الأميركية تصرفت بطريقة معاكسة تماما عزلتها هي وروجت لبضاعة أعدائها. لماذا فوتت أميركا الفرصة وجانبت الحكمة؟.

ليو شتراوس ألماني هاجر لأميركا وهو صاحب رؤية راديكالية يمينية شبه فاشستية ساهمت في تكوين رؤية أصحاب أجندة القرن الأميركي الجديد أي الهيمنة الأميركية على العالم. برنارد لويس بريطاني هاجر لأميركا وهو صاحب رؤية معادية للإسلام وترى الإسلام عدوا عضويا للحضارة الغربية وهو الذي صاغ عبارة صدام الحضارات في إطار العلاقة بين الإسلام والغرب وقد صار لمدرسته قاعدة في أميركا.

الأصوليون الإنجيليون في أميركا قضوا على ليبرالية الفكر المسيحي الأميركي واندفعوا في فكر تبعيضي حرفي للعهد القديم، فتبنوا رؤية مسيحية صهيونية ترى في إسرائيل مقدمة لمقدم السيد المسيح عليه السلام، وترى منطقتنا أرض مفاصلة نهائية بين الحق والباطل.

المدرسة الأولى وراء اختطاف المحافظين للسياسة الأميركية داخليا وخارجيا. والمدرستان الأخيرتان وراء تحالف الإدارة الأميركية مع اليمين الإسرائيلي.

المحافظون الجدد جودوا صناعة الخوف واستغلوها لدعم برنامج الهيمنة والتحالف مع اليمين الإسرائيلي.

الأحادية الاستباقية الاحتلالية الأميركية المتحالفة مع التوسعية الإسرائيلية نقلت أميركا من الضحية المتعاطف معها على نطاق واسع إلى الجلاد الممقوت على نطاق واسع. والنتيجة الآن هي:

ان طالبان هي القوة السياسية الأكثر فاعلية في أفغانستان. وان الشعبوية الراديكالية المعادية لأميركا هي الأقوى في إيران. وان العراق الجديد سواء القانوني أو الرافض له كليهما بعيد تماما من التصورات الأميركية له.

باع اليمين الإسرائيلي لحلفائه في أميركا فكرة التركيز على التناقض بين النظم العربية وشعوبها وتبنى الديمقراطية في المنطقة رافدا أساسيا للسياسة الخارجية الأميركية.

لكن التجارب الديمقراطية في المنطقة أتت «بأبالسة» في نظر اليمين الأميركي ففترت الحماسة للديمقراطية العربية. بل نشط الأميركيون في تعزيز تحالفهم القديم مع نظم غير ديمقراطية. والحقيقة هي أن أية مظاهر حيوية شعبية في المنطقة سواء اتخذت طابع التعبير الغاضب بالعنف العشوائي، أو طابع المقاومة المشروعة، أو طابع صناديق الاقتراع فسوف تعبر حتما عن العداء للسياسات الأميركية وتحالفها غير المقدس مع اليمين الإسرائيلي.

السجال الظلامي الذي أفرز 11/9/2001م وما بعده سوف يتصل بلا انقطاع. نحن في المنطقة نريد مشروعا نهضويا يقوم على صحوة إسلامية مستنيرة، وصحوة قومية واعية، وتنمية إنسانية بكل أبعادها، وتحول ديمقراطي يكفل الحريات العامة وحقوق الإنسان. هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي يمكن لأهل المنطقة أن يقيموه وهو الذي يمثل تطلعاتهم.

هذا التوجه يتطلب لنجاحه في صنع بديل للسجال الظلامي مراجعة الوطن العبري لسياساته لدفع استحقاقات القبول في المنطقة بما يسترد للشعب الفلسطيني ودول الجوار ما يمكن حقا وعدلا أن يقبلوه. ويتطلب مراجعة للسياسات الأميركية تتخلى بموجبها من الأحادية، والاستباقية، والاحتلال، وتوظف الوزن الأميركي الفريد في مجال التعاون الدولي لصالح التنمية الإنسانية الكونية. الخيار أمامنا جميعا هو أن نربح عالما أعدل وأفضل أو أن نخسر العالم لصالح عهد ظلامي كوني.

يا أهل الكون الواحد إن 11/ 9/ 2001م ناقوس خطر، وواجب عقلاء العالم وحكمائه الاهتمام بالأعراض في حدودها وتجاوزها لما وراءها لبناء عالم أعدل وأفضل. إن التدافع سنة كونية. الإنسان الراشد هو الذي يمهد لها قنوات تساهم كما هو شأنها في تطور البشرية لا أن تصبح عبوات تنسفها.