البابا و الإسلام .. الخلفية التاريخية للخطاب

TT

لقد غاب عن الكثيرين، بل عن البابا بنديكت السادس عشر نفسه، أن الرجل الذي كان يحاضر في منطقة البافير الألمانية حول تجديد الدين المسيحي ليس رأس المؤسسة الكاثوليكية بل رجل اللاهوت المتفلسف جوزف رازينغر، الذي عرف قبل اعتلائه مركز البابوية بتكوينه الفلسفي اللاهوتي الصلب وميله للحوار حول موضوعات الدين والعقلنة والتقنية في المجتمعات الغربية التي انهارت فيها المؤسسة الدينية، وانحسرت فيها المعتقدات المسيحية.

فالرجل الذي انتخب في ابريل 2005 خلفا للبابا البولندي ـ الذي عرف بحسه الانفتاحي وميله للحوار مع الثقافات والديانات الأخرى وعلى الأخص الإسلام ـ لم يكن يعرف عنه الكثير خارج الوسط اللاهوتي الكاثوليكي الضيق، على الرغم أنه نشر سيرة ذاتية مفصلة بعنوان «حياتي» يسرد فيها مساره الثقافي والديني في المرحلة الممتدة من ميلاده (1927) إلى عام 1977.

وقد كتبت عن البابا الجديد عدة كتب في السنتين الأخيرتين، اتفقت في نقطتين أساسيتين:

أولاهما: أن الأسقف الذي بدأ منفتحا مجددا في المجمع الفاتيكاني الثاني، تحول في السنوات الأخيرة إلى وجه محافظ متشدد يتبنى أكثر المواقف الكنسية انغلاقا، مما جر عليه سخط بعض الأساقفة الأقرب لسلفه.

ثانيتهما: أن الرجل مهووس بسبل تجديد الإيمان المسيحي وتدعيم حضور المؤسسة الكنسية في المجال العام وفي الحقل الاجتماعي والقيمي.

وعلى عكس بعض التيارات المسيحية الساعية لتبني المنطلقات والمفاهيم التحديثية داخل النسيج العقدي والقيمي للمسيحية كتيارات لاهوت التحرر والتفكيكية اللاهوتية والنزعات الإنجيلية الأمريكية.. يرى البابا بنديكت السادس عشر أن تجديد الديانة المسيحية لا يكون إلا بمحاربة الفكرتين الرئيسيتين اللتين جرفتا الحداثة الغربية خارج الدين وهما: النزعة العقلانية المشطة الرافضة للوحي والعلمانية النابذة للأخلاق والمفضية للتصورات النسبية للقيم.

ولم يفتأ جوزيف رازينغر يعبر عن هذه الأفكار في كتاباته اللاهوتية والفلسفية الغزيرة. ومن أهم هذه الكتابات حواره الثري مع الفيلسوف الألماني الأشهر يورغن هابرماس حول «الأسس الأخلاقية ما قبل السياسية للدولة الليبرالية» (نشرت مجلة اسبري أوراق هذا الحوار في عددها بتاريخ يناير 2004).

ففي حين دافع هابرماس عن الدولة العلمانية الحديثة القائمة على التقليد العقلاني الأنواري (شرعية استقلال الذات الراشدة والتصور الأداتي الإجرائي للقيم الجماعية).

يتحدث رازينغر عن الهوة المتفاقمة بين عقلانية تقنية جامحة خارج السيطرة وممارسة دينية صارت عقيمة لأنها أقصيت من أطر الفاعلية.

ويذهب إلى حد الكلام عن «مرض العقل الغربي» معتبرا أن الثقافة الغربية هي في آن واحد بنت الديانة المسيحية والعقلانية اليونانية، ولا يمكن أن يقوم توازنها إلا عن هذين المنبعين معا. فأخطر ما عانت منه هذه الثقافة هي الانحراف تحت إغراء المفاهيم النقدية والتاريخية إلى فكرة التعددية الثقافية وحق الاختلاف، مما انجر عنه تقويض مفهوم العقلانية الكونية، من جهة و«كونية الوحي المسيحي» من جهة أخرى.

ومن الواضح أن العقلانية التي يدافع عنها البابا الكاثوليكي ليست عقلانية الأنوار ذات النزعة الإنسانية التاريخية ولا العقلانية النقدية التفكيكية المعاصرة، بل العقلانية اللاهوتية النسقية العتيقة المتجاوزة.

من هذا المنظور يندرج كلامه الجارح ضد الإسلام في سياق تمسكه بالسياح اللاهوتي الكاثوليكي الوسيط، ونزعته المناوئة لمقولة التعددية القيمية التي هي الخلفية النظرية والمرجعية لفكرة حوار الديانات والحضارات. وإذا كانت بعض المؤشرات السابقة تكشف عن موقفه المتعصب من الإسلام، كاستقباله للصحفية الإيطالية أوريانا فالاشي التي اشتهرت بكتاباتها العنيفة الحاقدة والعنصرية ضد الإسلام والمسلمين في سبتمبر 2005، إلا أن الفقرات التي وردت في محاضرته الأخيرة حول المقارنة بين التصور الإسلامي للإلوهية «المناقض للمقولات العقلية» والتصور المسيحي «ذي المسحة العقلانية الإنسانية» تندرج في ما أشرنا إليه من هاجس تجديد الممارسة الدينية في المجتمعات الغربية بإرجاعها لجذورها الدينية التي تمردت عليها.

فالحديث عن الإسلام في هذا السياق، له أوجه ثلاثة مترابطة يحيل أولها إلى ما يعتبره البابا التحدي الخطير الذي تطرحه هذه الديانة التي تحولت إلى الدين الثاني في البلدان الغربية على الانسجام العقدي والثقافي في الوسط المسيحي الرئيسي، في حين يحيل الوجه الثاني إلى الخلفية اللاهوتية المعروفة للصدام العقدي المسيحي ـ الإسلامي (درسها باستفاضة الباحث التونسي عبد المجيد الشرفي في كتابه الضخم الذي تناول فيه تجربة الحوار الإسلامي المسيحي في العصور الوسيطة)، أما الوجه الثالث فيتعلق بالحوار الدائر راهنا حول الخلفية الدينية والفكرية لـ«الإرهاب الإسلامي» الذي عانت منه بعض المدن الغربية الكبرى.

وإذا كان البابا بنديكت السادس عشر قد أسف لردود فعل المسلمين المحتجة على محاضرته المسيئة متذرعا بأن الفقرة المقصودة في كلامه كانت استشهادا من العصور الوسيطة لا يوافق على مضمونه، إلا أنه من البين أن موقفه الذي يعيد بالعلاقات الإسلامية ـ المسيحية إلى ما قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، يتنزل في إطار الحوار المسيحي الداخلي بين نزعة حوارية منفتحة من أهم ممثليها العالم اللاهوتي السويسري المرموق هانز كونغ الذي تردت علاقته بالفاتيكان في العقود الماضية، ونزعة اقصائية مغلقة عاجزة عن التحرر من النظرة الصليبية العدوانية المستبطنة في الأطروحات الاستشراقية واللاهوتية السائدة.