جولة رايس: أهي زيارة.. أم إعلان لعهد جديد..؟

TT

أدرك وأنا أخطٍّ أولى كلماتي اليوم، أنني لن أستطيع الإحاطة بكلّ الأفكار والمفاهيم التي نثرتها رايس على موائد الإفطار وفي الاجتماعات الرسمية والمؤتمرات الصحفية والمقابلات والمحاضرات خلال زيارتها الأخيرة للشرق الأوسط، أو لبعض البلدان فيه، التي اختيرت بعناية وحذر تماماً، كما اختيرت تصريحات وتعابير رايس وخطواتها بدقة متناهية لتؤسّس للعهد الجديد، الذي قدمت من أجل إعلان إطلاقه رسمياً في منطقتنا، بحيث لا يعود أحد إلى ما شغل الأذهان والعقول قبل هذه الزيارة التي يراد لها أن تكون مفصلية. والمتابع بدقة لكلّ ما ورد على لسان رايس، يدرك أن ما تفضّلت به بحاجة إلى مجموعة بحثية تخصص ساعاتٍ طوالاً لدراسة كلّ ما قيل علناً على الأقل، ومحاولة التكهن بما قيل سراً، من أجل التوصل إلى استخلاصات ونتائج تساعد كلّ مواطن عربي مشغول بمصالح أمته أن يستقرئ الزمن القادم، لأن الزيارة مليئة بالمؤشرات عن هوية هذا الزمن القادم وخصائص الحقبة التي سيعيشها العرب، إذا ما استمروا متلقين للخبر ومرحبين بما تحمله لهم جعبة الزوار الأجانب من دون أن يكون لديهم إجماع على أولوياتهم وحقوقهم ومصالحهم، ومن دون أن يتمكنوا من تحدي أي من الفرضيات التي توضع أمامهم، وتشكّل أساساً للنقاش، بينما من بديهيات العمل السياسي والدبلوماسي، هو أن يكون لكلّ طرف أولوياته وفرضياته التي ينطلق منها ليحقق مصالح شعبه وأمته. لذلك فإن كلّ ما تعلمناه في هذه الزيارة يصبّ في إطار فهمْ «رؤية بوش والمحافظين الجدد لمنطقتنا»، وكأن هذه الأرض الطيبة الطاهرة، والتي حباها الله أن تكون مهداً للديانات السماوية وللحضارة الإنسانية، لم تنبت فكراً ولم تحتضن شعباً له حياته وقيمه وأولوياته ومتطلباته.

ما تعلمناه من الزائرة القادمة بحقيبة تطفح بالأفكار والمعادلات السياسية الجديدة، التي نضجت للتو في ردهات مراكز الأبحاث الإسرائيلية بغطاء أمريكي، هو أن حكومة حماس قد «عجزت عن دفع رواتب الموظفين»، وليس أن إسرائيل تسرق فيما تسرق من الفلسطينيين، الملايين من أمول الضرائب الفلسطينية، بغية تجويع الشعب الفلسطيني وإذلاله، كي يتخلى عن حكومته المنتخبة «ديمقراطياً»، والتي خطف الجيش الإسرائيلي ومخابرات النظام الصهيوني عدداً كبيراً من أعضائها، وأُودعوا سجون الاحتلال الإسرائيلي من دون احتجاج أو إدانة من أي منظمة لحقوق الإنسان أو برلمان في بلد عربي أو «متحضر» على حد سواء!؟

وما تعلمناه من رايس هو أن المهم في حكومات الشرق الأوسط هو أن تكون «قادرة على العمل مع المجتمع الدولي»، أي طيّعة وفق السياسات الأمريكية، وليس أن تكون هذه الحكومات قادرة على العمل وفق مصالح شعوبها وأمتها، ذلك لأن الشعب العربي كان غائباً تماماً عن كلّ الأفكار التي تقدمت بها رايس. فقد تخلّت رايس ورئيسها وحلفاؤهم هذه المرة تماماً عن «الديمقراطية»، وأكالت المديح لـ«المعتدلين» وشجعتهم على العمل واللقاء مع من ترغب أن يلتقوا به، وأكدت لهم ثقة الرئيس بوش وثقتها بـ«الاعتدال»، وحتى انها عبرّت عن إعجابها بحكام محددين ذكرتهم بالاسم وبأدائهم ليكونوا نموذجاً للآخرين. فما أهمية أي شعب، وما هو مصير «الديمقراطية» الموعودة التي تم وأدها قبل أن تولد، بعد كلّ هذه الخطوة النشاذ عن واقع الحال ومتطلباته المرحلة من سيدة الخارجية الأمريكية. ولكي لا نظهر بمظهر من ينكر لأصحاب الفضل فضلهم، علينا أن نعترف أن السيدة رايس قد «طالبت بتخفيف القيود المفروضة على المعابر المؤدية إلى قطاع غزة»، أي أنها طالبت السّجانين الإسرائيليين بفتح أبواب سجن غزة لفترات مؤقتة للسماح للفلسطينيين بالعبور أحياناً، وإن كان طلبها لم يلقَ آذاناً صاغية، لأن «الإسرائيليين أعلم بأحوال المنطقة، وهم أجدر من يقرّر هنا من يستحق الموت، ومن يستحق الحياة، ومن يمكن له أن يتحرك بحرّية ومن يجب تقييد حركته حفاظاً على الأمن والسلام.. طبعاً».

ما أتت به رايس إلى المنطقة هو تأجيج الخلافات بين الفرقاء العرب وتمهيد الطريق لمزيد من التواصل والتآنس بين المزيد من حكومات العرب وإسرائيل، بعد أن أعلن مسؤولون في إسرائيل أنه على الفلسطينيين أن ينسوا قضية اللاجئين، وبالطبع الأرض، وبعد أن عبّر الإسرائيليون عن رغبتهم بإزالة القرى الفلسطينية عن وجه الأرض، وبعد أن أذكت هذه السياسيات حدة الخلاف بين الفرقاء الفلسطينيين، بحيث أن الدم الفلسطيني الذي يسيل يومياً برصاص الاحتلال الإسرائيلي قد سال، وللأسف، بسلاح فلسطيني. ورايس طبعاً تعدّ العدّة كي تعمّم أحداث غزة والعراق على أكثر من قطر عربي لتثبيت نظرية أن العرب غير قادرين على حكم أنفسهم، وأنه لا بدّ من مساعدتهم في حكم أنفسهم، والبعض من العرب مطمئن إلى هذه المقولة وممتن للمساعدة التي قد تسديها رايس في إدارة شؤون المنطقة. لقد سعت السيدة رايس إلى طوي صفحة من تاريخ المنطقة مفادها «أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والجرائم التي ترتكبها إسرائيل، هي المسؤول الأول عن انعدام الأمن والاستقرار في منطقتنا»، وبدأت بإرساء مفاهيم جديدة مفادها «أن بعض العرب يشكّل تهديداً للبعض الآخر، وأن دولاً عربية تشكّل تهديداً لاستقرار دول أخرى» بحيث يخرج الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق والاحتلالات المستقدمة بذرائع مختلفة إلى لبنان والسودان نظيفة اليد، لا بل ضرورة حتمية للارتقاء بهؤلاء العرب إلى مستوى العالم المتحضر. ولم تفشل رايس في هذا الصدد، بأن تروّج للنموذج الأول للديمقراطية الأمريكية، وأن تمنح بركاتها لأول بوادر تقسيم لبلد عربي، وبداية واضحة لحرب أهلية، متنصلة من مسؤولية بلدها عن كلّ المآسي التي تعرّض ويتعرض لها الشعب العراقي، وملقية باللائمة على العراقيين أنفسهم (!)، ومهيبة بهم أن يوقفوا المدّ الدموي المتفاقم للإرهاب على طول العراق وعرضه. لا شك أن المقاربة التي تقدمت بها رايس لكلّ ما يدور في بلدان المشرق العربي تحتاج إلى جرأة غير مسبوقة، لأنها تتجاهل الواقع والأسباب والأهداف المرسومة من قبل القوى المعادية التي تستهدف هذه الأمة، وتتحدث عن مفاهيم وسيناريوهات لن تؤدي إلا إلى المزيد من الفرقة والانقسام والاقتتال بين العرب. وربما ليس مصادفة أنه عشية قدوم رايس إلى المنطقة ظهر خبر استدراج عروض لتشييد جدار بين سورية والعراق على طول الحدود مع كاميرات مراقبة، وأيضاً تزامن هذا مع وصول قوات اليونيفيل إلى نقطة المصنع الحدودية بين لبنان وسورية، وأيضاً تسريب خبر آخر أنه بعد عشرين عاماً لن يكون هناك مسيحيون في العراق، وربما في المشرق العربي، والسؤال الخطير هو: ما هو الحال الذي سوف يكون عليه العراق وفلسطين ولبنان وسورية والسودان والعالم العربي بعد عشرين عاماً؟! خاصة إذا ما استمرت السيدة رايس وأمثالها بالقدوم إلى منطقتنا حاملين نتائج الفكر المستهين بهذه الأمة والحاقد على وجودها؟ أو ليست المسألة برمتها هي شراء الوقت للصهاينة، كي يتمكنوا من استكمال بناء المستوطنات وقتل وتهجير السكان الأصليين من فلسطين، واستقدام المزيد من المستعمرين وقواعدهم ومستوطناتهم وحروبهم باسم «الشرعية الدولية»! كم عدد العرب اللاجئين اليوم على أرضهم وديارهم، وما هي مؤشرات هذا الواقع المؤلم للمستقبل، خاصة إذا ما انخرط العرب بالاقتتال الداخلي والحروب الطائفية التي يتم التخطيط لها، واختيار الزمان والمكان المناسبين لإشعالها. أما عن محاضرة رايس عن تمكين المرأة في الشرق الأوسط، فلتسأل رايس النساء العراقيات الثكلى واللواتي فقدن القدرة على السير في الشوارع بعد أن حكم الاحتلال الأمريكي على الشعب العراقي أن يكون ضحية للعنف والإرهاب. بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان والجرائم النكراء التي ارتكبها أولمرت في بيروت وقرى الجنوب، لم تأتِ رايس لتعمل من أجل السلام في المنطقة، وذلك لأن إسرائيل ترفض المبادرة العربية، وتتنكر لأي اتفاق، بل تأتي لدقّ أسفين الفرقة والانقسام والاقتتال بين أبناء الضّاد، ولتخلق أوهاماً بانقسامات ومعارك ومواجهات وهمية هي من صنع خيال المستعمرين الجدد. كم هو مناسب أن تتناول مجموعة من الباحثين العرب خطط رايس الخطيرة بالتحليل والتفنيد، لرفد أصحاب القرار بما يتوجب عليهم فعله كي يكون الغائب الوحيد في معادلة رايس هو الحاضر الوحيد في صنع المستقبل العربي، والغائب الحاضر هو الشعب العربي المدافع عن هويته وكرامته وحقّه في هذه الأرض المقدسة، بعيداً عن ألاعيب استعمارية قديمة تلبس هذه المرّة لبوساً جديدا، مرّة «ديمقراطية» وأخرى «اعتدالا»، ومن يدري ما تفصلّه واشنطن ليلبسه العرب!