الحوار الإسلامي ـ المسيحي.. هل انتهى زمن الوفاق؟

TT

مع أوائل الستينات من القرن المنصرم عرف العالم حديث حوار الأديان والذي هو أحق بان يطلق عليه حديث حوار أتباع الأديان ذلك أن الأديان كمعتقدات دوجماطيقية مطلقة لا تتحاور فيما بينها فيما الذين اختاروا الحوار طريقا هم أتباع الأديان وذلك حتى يجدوا طريقا للتفاهم والتعاون فيما بينهم.

وبداية وللموضوعية والأمانة يلزمنا التساؤل كيف تنظر المسيحية لاسيما الكنيسة الكاثوليكية خاصة للإسلام والمسلمين؟

الإجابة على هذا التساؤل من الأهمية بمكان لأنه على ضوئها ستتحدد النظرة التي عليها ينطلق الحوار من عدمه.

في الثامن والعشرين من أكتوبر من العام 1965 أي منذ واحد وأربعين عاما أرست الكنيسة الكاثوليكية عبر تصريح عن علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية ملامح هذه العلاقة.

يقول التصريح «إن الشعوب كلها جماعة واحدة أصلها واحد اسكنها الله وجه الأرض كلها وتتجه نحو غاية واحدة قصوى هي الله الذي يشمل الكل بعناية وبآيات لطفه وتدابير الخلاص حتى يجتمع المختارون في المدينة المقدسة التي يضيئها مجد الله وفي نوره تسلك الشعوب جميعا».

ومع الدخول إلى صلب الإجابة يميط التصريح اللثام عن نظرة الكنيسة الكاثوليكية للدين الإسلامي فيقول «تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد الحي القيوم الرحمن القدير فاطر السماوات والأرض الذي كلم الناس».ويضيف واصفا المسلمين بقوله «إنهم يجتهدون في التسليم بكل نفوسهم لأحكام الله وان خفيت مقاصده كما سلم إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه».

ولما كانت الصراحة والوضوح شرطا أساسيا من شروط الحوار الناجح فان الوثيقة قد أقرت بالخلاف القائم في قولها «وبرغم أنهم لا يعترفون بيسوع إلها فانهم يكرمونه نبيا ويكرمون أمه العذراء مريم ويذكرونها في خشوع ثم أنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس عندما يبعثون أحياء من اجل هذا يقدرون الحياة الأدبية ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم».

وتؤصل الوثيقة لمرحلة جديدة من الحوار وأهميته رغم الصعوبات التي تلاقيه والتي هي حديث اليوم فتقول «ولئن كان عبر الزمان قد وقعت من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين فان المجمع يهيب بالجميع أن ينسوا الماضي وان يعملوا باجتهاد صادق سبيلا للتفاهم فيما بينهم وان يتماسكوا من اجل جميع الناس على حماية وتعزيز العدالة الاجتماعية والقيم الأدبية والسلام والحرية».

يفهم إذن من النص السابق للوثيقة أن هناك أساسا للحوار وهو اعتراف الكنيسة الكاثوليكية التي تعد نحو مليار وثلاثمائة مليون مؤمن حول العالم بان المسلمين يعبدون الله الواحد الأحد وليس اله غيره ومن هذا المنطلق فان موجبات الحوار تتمحور حول الإنسان الذي كرمه الله، وان هدف الحوار أو موجبات الحوار هي تخليق مجال أوسع وأرحب للإنسان ليعيش في حرية وكرامة وليعزز البشر فيما بينهم العدالة الاجتماعية.

والحقيقة التي لا مجال لإنكارها انه رغم التقدم الحثيث الذي صارت إليه حوارات أتباع الأديان في السنوات الأخيرة إلا أن هذه المسيرة قد أصيبت بطعنة قوية في نظر العالم الإسلامي من جراء حديث البابا بندكتوس الأكاديمي الذي قدمه في جامعة ريجنسبورج بالمانيا وذكره للحوار الذي دار بين مفكر وفيلسوف فارسي مسلم والإمبراطور البيزنطي مانويل باليولوغوس الثاني وطرح الأمر تساؤلا: هل ما جرى هو ردة عن الحوار الإسلامي المسيحي؟ وهل أضحى الحوار مجرد مضيعة للوقت كما يرى البعض أم أن ما جرى في ألمانيا وان كان كبوة إلا انه يمكن تخطيها لتحقيق أهداف وأغراض ايجابية أوسع في طريق العلاقة الممتدة بين العالمين الإسلامي والمسيحي؟

بداية يلزمنا أيضا التوقف أمام التصريحات التي صدرت عن الفاتيكان سواء من خلال أمين سر الدولة الكاردينال بيرتوني أو من خلال البابا بندكتوس نفسه.

الواقع أن ما قاله الكاردينال هو «أن موقف البابا من اجل الحوار الديني والثقافي المشترك قد وضح خلال لقائه مع ممثلي بعض الجاليات الإسلامية في كولونيا بالمانيا في 20 أغسطس من عام 2005 حين قال إن الحوار بين المسيحيين والمسلمين يجب ألا يتحول إلى خيار موسمي مضيفا ان خبرات الماضي يجب أن تساعدنا على تحاشي ارتكاب الأخطاء نفسها إننا نريد البحث عن دروب المصالحة والعيش ضمن احترام هوية الآخر.

وفي لقائه مع جموع المؤمنين يوم الأربعاء 20ـ9 ايلول الماضي أكد البابا مرة جديدة على أن حديثه في ألمانيا إنما كان يقصد التوصل منه إلى أن العقل يستطيع أن يسير بجانب الإيمان لا أن يسير إلى جوار العنف وانه من هذا المنطلق يدعو للحوار الفاعل بين الإسلام والمسيحية والمسلمين والمسيحيين وان يكون الإنسان هو هدف الحوار وليس شيئا آخر، وإذا كنا في هذا المقام لسنا في صدد البحث في أزمة الفاتيكان الأخيرة فاننا أمام تساؤل جوهري يحدد منطلقات الحوار وهو: ما هي الضرورات الواجب توافرها في هذا الحوار حتى يصبح فاعلا وناضجا ولا تؤثر فيه زوابع الفنجان إن صح التعبير.

ويمكن القول بداية لا بد من أن يفترض الحوار تضامنا مع الطرف الآخر وان يبتعد مجال الحوار عن مواقف الشك أو رفض ما يأتي من الآخر أو ما يطالب به الآخر فالحوار يبدأ بنظرة إلى الآخر، نظرة احترام كاملة فلا يعتبره تلميذا عليه أن يعلمه ولا طريدة يجب أن يصطادها بل أخا له في الإنسانية الواحدة.

ثالثا : يترتب على المحاور أن يتحرر من ثقل الأحكام السابقة أو التصورات عن الآخرين التي يتناقلها الرأي الشعبي بطريقة غير واعية من جيل إلى جيل وان يسعى لان يفهم نفسه والآخرين كأشخاص لهم خبراتهم الشخصية ولهم قدراتهم ليتخذوا مواقفهم النابعة من قناعاتهم لا من تأثير الموقف العام.

رابعا: ضرورة قبول المحاور أن يتعلم من الآخر فعندما نلتقي إنسانا آخر علينا أن نعتبر انه يملك شيئا يعلمنا إياه ويغني خبراتنا الشخصية.

خامسا: أصبح من الواضح أن هدف الحوار ليس أن نجعل الآخر المختلف يعتنق إيماننا ولا أن نشككه فيما يؤمن به بل أن ننمي لقاءً روحيا عميقا يحث كل طرف على أن يتقدم في فهم إيمانه وفي ترجمته في حياته اليومية.

سادسا: بناء على ما تقدم ينفي الحوار كل توفيقية أي محاولة خلق عقيدة هي مزيج من عقائد الديانتين SYNCRETISME وكل نسبية أي مساومة على بعض الحقائق الإيمانية RELATIVISME بل يفترض إبراز حقائق إيمان المتحاورين على المستوى المعاش أكثر منه على المستوى النظري فان الحوار الحقيقي يتحول مناسبة ليتعمق المتحاورون في معنى إيمانهم وفي إخلاصهم له.

والمؤكد أيضا في هذا السياق أن هناك قواعد أخرى متعددة ومتنوعة تصلح مجالا خصبا للحوار لاسيما وانه جزء من مسار الباحث في وجدانه وقلبه عن سر الحضور الإلهي. وأظن أن هناك وحدة في المصدر الإيماني ما قبل الوحي في اليهودية والمسيحية والإسلام، فهناك حوار منذ البداية قائم بين الأرض والسماء بين الله والإنسان وما الوحي الإلهي عبر الكتب السماوية ورسائل الأنبياء إلا ضرب من الضروب الأولى لهذا الحوار ولعل كلمتين فقط يمكنهما أن يقوما الحوار تقويما حقيقيا بعيدا عن الخلافات الدوجماطيقية والتشرذمات المذهبية وهما فضيلتا «العدل والتضامن». فالمسيحية تدعو إلى العدل والإسلام يدعو إلى العدل، كما يدعو إلى محبة الفقراء التي يحث عليها الإيمان المسيحي كذلك فالحوار اليوم إذن رغم ما شابه من ضباب أزمة محاضرة ألمانيا يمكن أن يقوم على فكرة البناء معا سويا جهة مدينة الله القائمة على العدل والتعاضد وليس مدينة قيصر القائمة على المجد والقوة والمال.

نعم معا نبني حضارة الاقتسام والمشاركة ونهدم هيكليات الظلم والاستئثار وعندي أن القضية الاجتماعية هي المرتكز الحقيقي لمستقبل الحوار وشهادة الإخوة وعلامة نبوتنا لله الواحد، فالعطاء هو الأساس الحقيقي لرحمة الله وللشهادة لحبنا له حتى ولو بالتقدمة المستورة المتواضعة والعدل جامع مشترك بين المسيحية والإسلام واليهودية وهو مشروع حوار رائد بين هذه الديانات فلا يبنى مستقبل على الظلم وهدر حقوق الإنسان رجلا كان أم امرأة.

غير انه في إطار الحديث عن الصعوبات التي تواجه الحوار الإسلامي المسيحي اليوم لا يمكن للمرء أن يهمل هذا القدر الهائل من التداخل بين ما هو سياسي وما هو ديني وبين ما هو روحي مطلق وبين ما هو دنيوي نسبي فالبعض يرى أن الحوار الذي بادر به الغرب هو نوع من الاستدراج للمسلمين ليخرجوا بمواقف ضد من يدافع عن قضايا الأمة الحقيقية وان اللقاءات الحوارية التي تجري الآن سائرة في اتجاه التطبيع والإقناع ونزع الفتيل المعارض للغرب وهنا في حقيقة الأمر يضطرب أمر الحوار والذي يقوم على البحث عن أسس روحية وأخلاقية مطلقة يسعى أتباع الأديان للسير على هديها في طريق الحفاظ على كرامة الإنسان فيما أحاديث السياسة هي أحاديث الدسائس والمؤامرات والحروب إن بالنيران أو بالدبلوماسية ولعمري أن اشد ما يمكن أن يصيب الحوار الإسلامي المسيحي في مقتل هو خلط المطلق بالنسبي وخلط الديني بالدنيوي فالمعروف أن الخيرات والقيم الروحية هي منطلقات مطلقة لا تقبل القسمة بخلاف النسبي القابل للتوزيع بين غرماء وعليه إذا أردنا حوارا حقيقيا علينا أن ننزع عنه رداء السياسة وألاعيب السياسيين وان يكون حوارا لوجه الله ولخير الإنسانية جمعاء أمس واليوم والى الأبد. ويبقى قبل الانصراف القول انه رب ضارة نافعة وان أزمة خطاب البابا الأكاديمي الأخير التي قدم عنها اعتذرا غير مرة قد تكون فرصة طيبة نجلو بها في العالمين العربي والإسلامي ما لصق في الصدور من بقية ضغائن ولدتها عصور مظلمة وتمحو من الذاكرة رواسب خلافية عقائدية لا محل لها في القرن الحادي والعشرين، وتؤسس لنقله جديدة من الحوار أساسها الاحترام المتبادل والفهم الواعي لدى الأطراف المتحاورة.

* كاتب مصري

[email protected]