المنع في بلد الحريات

TT

عندما أصدر آية الله الخميني فتواه الشهيرة بإهدار دم الروائي سلمان رشدي في مطلع الثمانينات بعد روايته «آيات شيطانية»، قامت الدنيا ضد مبدأ التهديد وضد التجاذب السياسي في المسائل الفكرية. اليوم مجلس النواب الفرنسي قرر ان يضع في الحبس كل من تسول له نفسه ان يقول إن مذبحة الأرمن في تركيا غير صحيحة او يشكك في أرقامها. ما الفارق بين الحادثتين؟ الحقيقة ان الثانية اسوأ لأن النظام الايراني بطبيعته ديني متعصب وشمولي منسجم مع نفسه مما يبرر فتوى التحريم، اما النظام الفرنسي فيقوم على احترام الحرية الفكرية، وبمنعه النقاش يرتكب خرقا فاضحا في حق حرية التفكير. ومن الطبيعي ان يجادل الناس في قضايا كبيرة كالمذابح النازية والتركية ومثلها غيرها. قرار البرلمان الفرنسي وجّه ضربة غادرة لمبادئ الحريات الفكرية اكثر مما فعله اي نظام آخر في العالم بغض النظر عن الموضوع محل المنع، ولا يوجد هناك ما يبرره مطلقا. وفي داخل النظام ما يكفي لحماية الناس من سيئات الجدل الذي يمكن ان يؤذي مثل المحرض على العنف او ما ينادي بالكراهية.

وفي باريس، مدينة النور، حيث تتبارى الافكار وتحترم الاختلافات لعقود طويلة، يبدو غريبا ان يطالب أحد بمنع النقاش حول قضايا مرّ عليها قرن من الزمن. وأكثر غرابة ان يأتي التدخل من قبل المشرعين الفرنسيين في مجلس النواب معلنين ان رواية مجازر الاتراك ضد الأرمن مسألة لا يجوز لأحد التشكيك فيها، ومن يفعل يعاقب. الحكومة تعارض مشروع القانون لأنها ترى انها جزء من الحرية الثقافية التي يفترض ان يحميها القانون لا ان يعاقب عليها.

القضية رقمية، حيث يتجادل أهلها حول كم ذبحَ الاتراك، مليونا ونصف المليون من الأرمن، كما يقول الضحايا، ام ثلاثمائة الف، كما تقر المصادر التركية؟

التاريخ كله كان ولا يزال وسيستمر محل تشكيك كجزء من الحوار الفكري بين المتبارين، فما الذي يجعل بعض فصوله مقدسة وبعضها مباحة؟ كيف يدافع المشرعون الفرنسيون إياهم على الاحداث التاريخية في بلد آخر مثل تركيا وفي نفس الوقت يصمتون حيال المذابح التي ارتكبتها قوات فرنسية في الجزائر التي اتهمت بفظائع مهولة؟ هل يحق للجزائريين ان يلاحقوا المشككين فيها؟

ان السماح للبرلمانيين في أي مكان بالتدخل في النقاشات التاريخية، وترجيح كفة ضد أخرى، يدلل على سوء تسييس العمل النيابي الذي ربما له الحق ان يقر فقط الرواية الرسمية من النقاش التاريخي، وله ان يفرضه فقط على مدارسه الرسمية، لا ان يلاحق الناس في بيوتهم والبيوت الفكرية العامة.

[email protected]