الليبرالية الحقة.. وما لدينا

TT

إذا كان المخلص يرى أن الحداثة في الصحافة تعني أن تكون مبدأ واقع حياد وتجرد والمهم أن تكون ضميرا وموقفا لخدمة البشرية بلا استثناء، فهي بالضرورة أيضاً لا يُستغني عنها في هذا العالم المتشابك في الماء والغذاء والبيئة والطب والاقتصاد على مبدأ (عش ودع غيرك يعيش بسلام)، لا على مبدأ (قم لأجلس مكانك).

والصحف العملاقة في الغرب تحاول الوصول إلى هذا التصور، لذلك ترفض مبدأ محاور الشر والخير الذي يكذب بواسطته أساطين السياسة وغيرها من الوسائل التي ترهب وتجوّع الشعوب المستضعفة للاستيلاء على ثرواتها وإخراجها من مقوماتها الروحية والثقافية والاقتصادية، حتى لا تكون لها أظافر وأسنان تقاوم بها السطو والابتزاز.

لذلك نحن ننظر إلي هذه الصحافة العملاقة بإعجاب، لأنها تكشف المخططات الخاطئة التي تمارسها بلدانهم من أجل الدفاع عن سمعتهم الحضارية، ومن ثم التبرؤ مما يجري من ظلم للشعوب الأخرى، وكذلك محاربة الفساد الاقتصادي والسياسي في بلدانهم حتى يضمنوا بقاءهم في مكان لائق اكبر وقت ممكن.

ويجب عدم التعميم بأن كل من يعمل في هذه الصحافة العملاقة هو على هذا المبادئ الشريفة، ولكن معظم الكتاب على هذه الشاكلة، لأن الصحيفة التي ترتقي هذه المواقع العالية، لا بد أن تزيل كل الطفيليات الصحفية المتسلقة على جدرانها من المنتفعين. ولنأخذ الأمثلة في أمريكا: «واشنطن بوست» ـ «نيورك تايم» ـ «نيوزويك» وغيرها، تبهرنا بلبراليتها عندما يكتب فيها كتاب أمثال بوب ودورد وبرلستين أبطال فضيحة وترقيت، وكيف يهاجمون في كتاباتهم سياسة حكوماتهم تجاه العراق.

والكتاب الأخير للسيد/ ودورد يتحدث عن «حالة الإنكار» التي تقوم بها الإدارة الأمريكية، والذي يمكن أن يكون مرجعاً للمشككين في سياستها. وفي فرنسا صحف «الليموند» ـ «فيجارو» وغيرها لديها أيضاً كتاب متجردون مثل الكاتب ارك رولو وغيره الذين تصدوا لافتراء البابا في الفاتيكان، بخصوص ديننا ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وتسابقوا مع «نيويورك تايم» التي تصدت للسجون السرية وخلافها. وفيها كتاب قديرون أيضاً أمثال دانيال كريستوفر الذي أنصف الحرب اللبنانية وتوماس فريدمان، الذي اكتشف خطأ سياسة بلاده في العراق حتى ولو بعد وقت من دفاعه عنها. وكان شجاعاً في الرجوع إلى الحق مع أني اختلف معه بخصوص انتقائيته في مواضيع تخص إسرائيل وأمنها، وسوف أتحدث عن ذلك لاحقا في هذا المقال.

الصحافة الجديدة تضحية عظيمة، فكم من صحفي قد فُقد أثناء المعارك وضحى بنفسه ليظهر للعالم الحقائق كما هي، لا كما يريدها الساسة والعسكر، ومن أجل ذلك فأمثال هؤلاء الصحفيين يرفضون التحكم فيهم آلياً عن بعد، وليس كما هي للأسف صحافتنا. وهم يطبقون المقولة الساكت عن الحق شيطان أخرس، مع العلم أنهم لم يسمعوا هذا الأثر الكريم كثيراً مثلنا.

هذا بعض ما لديهم فماذا لدينا..؟!

اللبرالية لدينا كنت سأشبعها كتابة في هذا المقال، ولكن كفاني مؤنة ذلك، اثنان أحدهما الأستاذ عثمان العمير صاحب «إيلاف» في مقابلته الأخيرة في جريدة الحياة، وكان جريئاً ومتجرداً في آرائه، أما الشخص الثاني فكانت الكاتبة المتألقة مروة كريدية في «إيلاف» أيضاً، وقد تكون منقولة من صحيفة أخرى. لقد تحدثت عن تجاوز اللبراليين مع المتشددين في كيل الاتهامات فيما بينهم من تخوين وإلغاء للآخرين. ويمكن أن يكون هذان المصدران قد غطيا هذه العيوب الواضحة على أكمل وجه. كما أن بعض اللبراليين انتقائيين في كتاباتهم، وتشعر فيهم بالعجز والجبن إذا تحدثوا عن سياسة أوطانهم، ولكن يكونوا كما يقول المثل الأمريكي «فم كبير» إذا ما تحدثوا عما هو خارج أوطانهم. مع أن العرب كانت تقول رحم الله امرءا أهداني خطاياي لأقومها.

وللحقيقة فإني استثني مصر، فهي تعيش حرية صحافة غير مسبوقة منذ عُرفت، حتى أنّ الواحد منا يخشى من تجاوز بعض الصحفيين، مع العلم أن سياسة مصر الخارجية لا تزال مقصرة في محاولتها كدولة تعتبر أم العرب في أن تستعيد مكانتها التاريخية والسياسية.

ولكي لا أجافي الحقيقة فأقول أن لدينا صحفيين مرموقين في جميع الدول العربية، ولكنّ كثيرا منهم تخشاهم الصحف من أجل لقمة العيش فلا تنشر لهم، أما الآخرون فهم حين يكتب الواحد منهم نشعر بأن في فمه ماء وفي بطنه حجر من الخوف المبرر وغير المبرر.

ومثل ما على الحكومات من واجب تجاه حرية الصحافة، فعلى الصحفي واجب أيضاً في نقد أخطاء دولته مستنداً إلى الآية الكريمة في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا..»، حتى لا ينتقد انتقاداً ذا غرض أو حقد.

وبالعودة للكاتب القدير توماس فريدمان كما قلت، فهو عادل في كل مواضيعه عدا فيما يخص إسرائيل. ولا ألومه، بل العكس أريده مثلاً لبعض اللبراليين لدينا في كيفية توفيقه بين ما يكتب وما يميل إليه قلبه، كثوابته العرقية والدينية، فهو أمريكي بعيونه ولكن إسرائيلي بقلبه، وأترككم لمراقبته عندما يكتب. ولقد رصدت له الكثير، ولكن استرعى انتباهي عدة مواضيع منها:

أولاً: أنه اعتبر البترول أساس المصائب على الحضارة الأمريكية، لأنه يؤثر في اتخاذ القرار الأمريكي المتجرد لخدمتها وخدمة حلفائها. وقد يكون في ذلك خطر إذا ما استخدم كمكونات للقوة عند الشعوب الأخرى «المعادية» كما يقول. وأقول له ماذا لو كان البترول تحت أقدام الإسرائيليين، هل كنت ستنصح إسرائيل باقتطاع جزء منه لحليفتها أمريكا؟!!. عند ذلك ستسأل أهل الذكر. عليك يا رفيق ألا تبخسنا ذكاءنا.

ثانياً: كتب يحذر السنة من الشيعة كواعظ وأن المفاعلات التي تبنيها إيران هي لضرب الغرب وحلفائه من السنة، وكنت سأصدقه لولا أن طلع علينا السيد/ هنري كسنجر والمعروف عنه دوره في تشكيل القوة المركزية الحالية، التي مهمتها تأمين مصادر الطاقة من الخليج وذلك بعد حرب 73. وقال وفي نفس الوقت بما طرحه توماس، والذي يعرف هنري جيدا ويعرف فوضاه الخلاقة، هناك أشخاص أولهم الملك فيصل شهيد القدس رحمه الله، وثانيهم شاه إيران رحمه الله، وثالثهم الرئيس نيكسون فهو أحد الذين اكتووا بناره. فأرجعوا إلى مذكراته.

وهنري حالياً مستشار الرئيس بوش السري، راجعوا دوره في كتاباته في الصحف الأمريكية المتعددة، فهو يشحذ الهمم لغزو العراق. ونعلم أن هنري هو أستاذك الروحي. يا رفيق توماس (دوّر غيرها)، فالآن أبشرك أن خادم الحرمين الشريفين يصرّ على ألا تكون هناك حرب طائفية في خليجنا المحروس بإذن الله. كما أن دول الخليج لن تكون جمهوريات موز كالدول التي احتللتموها سواء بالحرب أو بالسياسة. وأتمنى يا رفيق فريدمان أن تعتنق الإسلام ويعطيك أحد الموسرين قناة إخبارية، بشرط أن لا تحوّلنا ذوي أعين زرقاء. ونشكر «الشرق الأوسط» العتيدة والقائمين عليها التي تترجم لهذا الصحفي المميز المثير للجدل وغيره، خدمة لحرية التعبير وتحقيقاً للرأي لدينا والرأي الآخر لدى الغرب، وهذا السبق قد أصبح من سماتها وشخصيتها المتجددة. وجزء مهم من مشوار اللبرالية الحسنة، ولو أن شهادتي فيها مجروحة كوني أتشرف بالكتابة فيها، ولن يزيدها أو ينقصها شكري شيئاً.

وأخيراً وليس آخراً نحتاج من لبراليينا أن يعلموا الجيل القادم عدم استخدام الصحافة للتكسب والتقرب والابتزاز. وتشجيعهم على عدم الخوف على أرزاقهم، إذا ما كتبوا بتجرد وضمير، حتى لو هُددوا بزوار «فجر» أو «بين عشاوين»، فالله الرازق والله الحافظ. والتخلص من شعور الوهم في مراقبة الإعلام والتدرب على المراقبة الذاتية. والدول الواثقة تشجع الصادق بقدر ما تحتقر المنافق، حتى لو لم تظهره علناً، ولكن لا تمنعه من ذلك أيضاً. وأن يقوم رؤساء التحرير المنقرضة صلاحيتهم بإفساح المجال للشباب الجديد، ولا يأخذوا وقتهم ووقت غيرهم فبوسعهم أن يبقوا كتاباً كباراً، إذا ما تخلوا من اجترار الماضي على طريقة الحق على المرحوم. المهم الطريق طويل والمهمة صعبة، لكن للرجال المواقف ولا شيء صعب مع الإيمان. وكما للباطل جولة سوف يكون للحق جولات. أعذروني للإطالة. والله المستعان.

* لواء طيار متقاعد

وخبير سعودي

في الاستراتيجيات العسكرية