من ديمقراطية التمثيل.. إلى ديمقراطية الاحتجاج

TT

حدثني مؤخرا أحد الساسة المغاربة المحترفين أن الطبقة السياسية في بلاده تواجه في أفق الانتخابات البرلمانية المقررة في العام القادم تحديا غير مسبوق. ففي الوقت الذي يؤمل أن تكون هذه الانتخابات أكثر المنافسات نزاهة وشفافية في تاريخ المغرب المعاصر، بما توفر لها من ضمانات إجرائية وقانونية، يخشى أن تقود إلى انهيار التشكيلات الحزبية الكبرى التي حفظت للحقل السياسي المغربي توازناته منذ الخمسينات.

ويضيف محدثي قائلا: أن هذه التشكيلات تتوزع إلى كتلتين كبيرتين هما أحزاب المقاومة التي تفرعت من حزب الاستقلال الأم وأهمها اليوم حزبا الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية وحزب الاستقلال (الذي حافظ على التسمية الأصلية) والأحزاب التي كانت تدعوها المعارضة السابقة بالأحزاب الإدارية، وهي في الحقيقة التشكيلات «المخزنية» التي تجمع بين القوى الأهلية والمالية والإدارية المرتبطة بشبكة ولاء مباشر للقصر.

ويعود نجاح تجربة التناوب التوافقي التي يعيشها المغرب منذ 1997 إلى أن الكتلتين توصلتا ـ برعاية ملكية ـ إلى تسوية سياسية تضمن لهما إدارة المسار الانتقالي في اتجاه ديمقراطية تعددية حقيقية تحمي المغرب من الهزات العنيفة التي عاشها في العقود الماضية.بيد أن التجربة وإن كانت نجحت نسبيا ـ حسب محدثي ـ إلا أنها أفضت إلى إضعاف الأحزاب السياسية التي فقدت وهجها وانهار زخمها التعبوي وحضورها الشعبي، سواء تعلق الأمر بأحزاب الحركة الوطنية التي تحولت من موقع الاحتجاج والرفض إلى موقع الاصطدام بالملفات الاجتماعية المعقدة، أو بالأحزاب المخزنية، التي لم تعد تستأثر بدعم الإدارة والمؤسسة الملكية.

فالمشهد القادم يتأرجح بين احتمالين قد يتشابكان هما: اجتياح إسلامي واسع أو سيطرة النواب المستقلين على البرلمان وهم في الغالب من الواجهات الأهلية والطبقات الاجتماعية الجديدة غير المتحزبة. وفي كل الأحوال، سيكون المشهد السياسي المغربي أمام تحد غير مسبوق قوامه انهيار حزبي مريع، وصعود أطراف جديدة الى الساحة السياسية تغير توازناتها الثابتة. وليست الوضعية المغربية استثنائية في الساحة العربية، وإن كانت تتميز بحملة خصوصيات، لعل أبرزها أنها أهم حالات الانفتاح السياسي التي تمت في العالم العربي خلال العقد الأخير، بالنظر لتجربة التناوب التي عرفتها.

فمن الواضح أن التشكيلات الحزبية في عموم البلدان العربية تمر بأزمات عصية، باستثناء الأحزاب الحاكمة التي تتماهى في تركيبتها الفعلية مع البنيات البيروقراطية التنفيذية للدولة.

ولا يمكن إرجاع هذه الوضعية إلى حالة استبدادية وانغلاق النظام السياسي وحدها، باعتبار أن الحياة الحزبية النشطة التي كانت قائمة في الساحة العربية سابقا تعاملت مع هذه الحالة، بل كانت نتاجها نوعا ما. فغني عن البيان أن الأحزاب الوطنية الكبرى، التي تولدت عن حركات التحرر والمقاومة انهارت في الغالب (ومثالها الأوضح حزب الوفد المصري)، كما أن التشكيلات الأيديولوجية التي ظهرت في حقبة المد القومي واليساري تراجعت وانحسر زخمها التعبوي.

ولئن كانت الاتجاهات الإسلامية تبدو استثناء، إلا أن المجموعات الإسلامية النشطة، هي في الحقيقة التيارات الراديكالية الخارجة عن الشرعية، وليس التنظيمات الحزبية الإسلامية التقليدية. وإذا كانت بعض المقاربات تركز على اثر انحسار العامل الأيديولوجي على تركيبة وأداء الأحزاب السياسية، إلا أن هذا العامل ليس سوى عنصر واحد من المعادلة التي تتجاوز أبعادها الإطار الإقليمي الضيق.

فبغض النظر عن خصوصيات الساحة السياسية العربية، تشهد اليوم الممارسة الديمقراطية (حتى في البلدان الديمقراطية العريقة) أزمة تحول، تبدو آثارها جلية في انتكاسة وتراجع الأحزاب وإحجام الناس عن المشاركة في الانتخابات وعدم استقرار الحكومات. وقد عبر عن هذه الظاهرة عالم السياسية الفرنسي بيار روزنفالون في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «الديمقراطية المضادة» بتقدم بعد «التحدي والمواجهة» في العملية الديمقراطية على بعد «الثقة» الذي تترجمه عمليا آلية الانتخاب.

فإذا كانت الآليتان ضروريتين في الممارسة الديمقراطية، إلا أن ما حدث هو تراجع آلية التمثيل التي تقننها الانتخابات في مقابل نمو آلية المحاسبة والمواجهة التي تبرز في حركات الشارع الاحتجاجية واستطلاعات الرأي الغاضبة والنقمة الإعلامية والمحاكمات السياسية الملتهبة. فهذه الآلية المتنامية لا تناسب العمل الحزبي، فهي تتمحور حول نشاطات اليقظة والاحتجاج بدل التنظيم والتعبئة الأيديولوجية. هدفها ليس التمثيل وإنما طرح المشاكل والضغط على السلطات، التأثير في الحكم وليس انتزاعه.

وبإسقاط هذا النموذج الذي بلوره روزنفالون على الساحة العربية، يمكن القول إن تجارب الانفتاح والتعددية المحدودة التي عرفتها هذه الساحة كشفت عن بروز الاتجاه نفسه بخلفيات مغايرة. بيد أن المشكل المطروح هنا هو غياب التوازنات المجتمعية والسياسية التي تحمي النظام الديمقراطي من المدى الاحتجاجي غير المنظم حيث تتحول آلية الانتخاب الى انقلاب فعلي على الحياة السياسية.