العرب بانتظار خطوة واشنطن التالية!

TT

يقول المثل الشعبي «الرزق السائب يعلّم الناس (على) الحرام». والأوضاع في عالمنا العربي سائبة، والكلّ يتطوع لضبط أوضاعنا السائبة، وفق هواه ومصالحه.

الكلام يتزايد، في بعض العواصم، عن تغيّر ما في المقاربة الأميركية لأوضاع المنطقة من «فرض الديمقراطية» إلى «تشجيع الاستقرار». عن تبدّل في الأولويات يأتي في ظل انحدار العراق نحو التقسيم، وإخفاق «صقور» واشنطن في تحجيم الدور السوري والنفوذ الإيراني، وزجّ فلسطين ولبنان في آتون الحرب الأهلية.

لا شك أن في الجو تغيّراً ما. ولا يصحّ ألا أن يكون ثمة تغيّر، ولو في المقاربة على الأقل، إذا ما تذكّرنا أن في واشنطن نظاما يقوم على مؤسسات المحاسبة الديمقراطية والإعلام الحر، على ما فيهما من شوائب. ولكن المهّم بالنسبة للعرب وللأميركيين هو نوعية المقاربة وطبيعة التغيّر.

فعندما دفع تحالف اليمين الإنجيلي و«المحافظين الجدد»، الولايات المتحدة إلى استخلاص عِبَر مقلوبة من «هجمات 11 سبتمبر/ أيلول»، وبرّر أمام الشعب الأميركي «الحرب على الإرهاب»، على أنها ضرورة من ضرورات الدفاع عن النفس، فإنه اعتمد «الخيار الصفر» منفرداً... رافضاً باستعلاء وعناد أي بحث أو مشورة ولو من أخلص الأصدقاء.

هذا التحالف كان وما زال يعتقد أن واشنطن تستطيع مواصلة رسم استراتيجيتها إزاء العالمين العربي والإسلامي، أولا من ثقب باب مصالح إسرائيل، وثانياً من مصالح اليمين الأصولي المسيحي المادية المتشابكة مع منظوره التكفيري للعالم وثقافاته ومفاهيم الخير والشر والدنيا والآخرة.

إنه كما يقول المثل الإنجليزي «يريد أكل الكعكة... والاحتفاظ بها في وقت واحد».

وبالنتيجة، جاء غزو أفغانستان ثم غزو العراق تحت شعارات عريضة براقة، هي إسقاط الديكتاتورية (الدينية والعشائرية) المتخلّفة، ومساعدة المعتدلين والمنفتحين على ترسيخ دعائم الديمقراطية.

وكانت المسألة ببساطة «كن فيكون»، و«أما معنا.. أو ضدنا». كانت تجربة أكاديمية «فوقية» في هندسة الجغرافية الإنسانية، أهملت التعقيدات والتوازنات والتنوع والعصبيات واختلاف منظومات المثل والمعايير الاجتماعية السياسية. ولم تأخذ في الحساب على الصعيد العملي البسيط جداً ... عامل الدفاع عن النفس، النابع من غريزة البقاء. إذ غاب عن تفكير مخططي «تجفيف منابع الإرهاب» ودعاة الحروب الاستباقية أن لكل حيوان سلاحاً يستخدمه عندما يشعر بالخطر. فكيف بالدول والطوائف والتنظيمات المسلحة وغير المسلحة عندما تشعر بأنها غدت محاصرة ومستهدفة؟

في العراق بالذات كانت هذه السياسة مكلفة جداً، وبالأخص على أبناء الشعب العراقي نفسه. وباستثناء محاولات عاقلة من هنا وهناك، تفيد كل المعطيات، مع الأسف الشديد، بأن العراق ماض قدماً نحو التقسيم... إن لم يكن نحو التفتت.

وهنا أتذكر مقابلة أجريت مع الدكتور عدنان الباجه جي، بعد إسقاط حكم صدام حسين وبدء البحث عن بناء العراق الجديد.

يومها سئل الدكتور الباجه جي، وهو الشخصية العاقلة والمثقفة والوطنية، عن خيار الفدرالية. فقال ما معناه أنه من حيث المبدأ ليس ضد الفدرالية، لكن حتماً ليس على أساس ثلاثة كيانات ذات طابع طائفي أو عرقي، لأن هذا يفضي عملياً إلى التقسيم، بل يفضل كيانات (محافظات) قد تصل إلى 15 أو أكثر فيها حد مقبول من حرية التصرف داخلياً، بصورة تضمن التعايش في إطار عراق موحد، لا تشعر فيه مكوناته بالخوف أو الشعور بالغبن.

حول هذه النقطة بالذات، اعتقد ـ بالإذن من السيد حسن نصر الله، الذي يرى أن «الفدرالية كلام إسرائيلي» ـ أن الفدرالية لا تستحق فقط ان تكون خياراً، بل هي الحل الأنسب، شرط أن تكون محطة على سكة تعزيز التصافي والانسجام الداخلي والتخفيف من الاحتقان الناجم عن الممارسات الظالمة أو الكيدية، لا مدخلا مستتراً لمشروع تقسيم يحوّل الكيانات الوليدة إلى «محميّات» للقوى الإقليمية والدولية الكبرى.

الفدرالية التوحيدية، صنعت في سويسرا، بلد اللغات الأربع الرسمية والكانتونات العرقية واللغوية المتداخلة، معجزة اقتصادية وحضارية. وأسهمت في جعل الولايات المتحدة اعظم قوة في العالم، وحتى عندما تهددت بالفتنة الداخلية خاضت ولاياتها حرباً أهلية للدفاع عن وحدتها... لا لتقسيمها. وسمحت لألمانيا الغربية بتحميل كل مواطن من مواطنيها، خياره الديمقراطي لا بالإكراه ومن جيبه الخاص، نفقات ضم ألمانيا الشرقية المفلسة إليها.

إن فدراليات كهذه تبنى بهدف التقريب والجمع... أفضل ألف مرة من كيانات احادية ما عادت تجد حماية لحدودها إلا في الديكتاتورية و«العسكر».

صحيح، في عالمنا العربي مشاريع فتن وحروب أهلية وانفصالية بالجملة، العديد منها تغذيه إسرائيل ومن يقف وراء إسرائيل. لكن بعضها أيضاً تغذيه الممارسات العشائرية والطائفية والمنافقة والديماغوجية، التي تستغل من أجل بقائها في السلطة غسل الأدمغة وتهييج الغوغاء وترويج الشعارات والخطب الوطنية والنضالية الكذابة.

في بعض الدول العربية، التي يتشدّق ساستها وإعلاميوها ليلَ نهار بالعروبة و«وحدة الشعب والقيادة» وبناء جبهات التصدّي للمؤامرات الأجنبية، يكمن أسوأ أشكال التعصب الديني والطائفي وتنمو الأحقاد الفئوية وتتعزّز النزعات الانفصالية، التي تشكّل مناخاً مؤاتياً للتدخل الأجنبي ومشاريع التقسيم. ولا حاجة لنكء جراح الفتن المذهبية والعرقية والعشائرية... فالأمثلة في الماضي والحاضر ماثلة للعيان.

عودة، إلى ما بدأت به.

نحن الآن، موعودون إذاً بتغيّر ما في سياسات واشنطن إزاء المنطقة، من إيران إلى دارفور، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية الأميركية. وهي انتخابات قد تحرم الرئيس بوش من قوة الدفع اللازمة لمواصلة مغامراته في مجرى السياسة الدولية، إذا ما فقد الجمهوريون السيطرة ولو على أحد مجلسي الكونغرس. ولكن كيف سيحصل التغيّر؟

ثمة من يأمل بعودة «براغماتية» جيمس بيكر إلى الحظوة في البيت الأبيض، عوضاً عن «عدوانية» ديك تشيني و«عضلات» دونالد رامسفيلد. وعسى أن يتحقق هذا الأمل، خاصةً أن سياسات تشيني ورامسفيلد ومن لفّ لفهما أدت إلى تفاقم أزماتنا، وزيادة معاناتنا، وإحراج مثقفينا – من ليبراليين وتقدميين ويساريين – وصولا إلى حد «تخوينهم»... مقابل رفع أسهم المتطرفين واليائسين والانتهازيين المشبوهين من تجار النضال في الشارعين العربي والإسلامي.

ما أود قوله هو أن المطلوب مقاربة أميركية فيها الحد الأدنى من الالتزام الصادق بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية، التي تزعم واشنطن أنها مؤمنة بها.

فعندما يختار الفلسطيني اليائس أن يصوّت لـ«حماس» في انتخابات ديمقراطية حرة فليُحترم خياره إلى أن يقتنع هو بأن «حماس» قد لا تعبّر بالضرورة عن الحالة المثلى التي يصبو إليها، لكنه اختارها رفضاً منه للبدائل الأخرى، كالفساد والمحسوبية والضعف أمام العدوانية الإسرائيلية.

وفي لبنان، يستحق المواطن تعايشاً انفتاحياً حقيقياً يحول دون احتكار التطرّف الديني «هالات» البطولة والقداسة والسيادة، لكن هذا لن يتحقق إذا ما عرّيت الحكومة اللبنانية عمداً من صدقيتها أمام شعبها، إما بالمطالب التعجيزية المحرجة أو الدعوات الإسرائيلية التطبيعية... بينما توجه تل أبيب إلى دمشق «رسائل تفاهم»، لعقد صفقة فوقية جديدة على حساب لبنان.

وطبعاً لن تتعزز الوحدة الداخلية في دول الخليج ما لم تمارس الولايات المتحدة سياسة حكيمة وتشاورية مع قواها المسؤولة إزاء إيران وطموحاتها المشروعة منها وغير المشروعة. ولن يظل هناك سودان، ولن تستمر معارضة سودانية وطنية حقيقية، إذا ما أمعنت بعض الجهات الخارجية في دعم الحركات الانفصالية. ولن يضعف التيار الذي تقول واشنطن أنها تخشى من تناميه في مصر وغير مصر، إذا بقيت شروط كامب ديفيد المثال والإطار والجوهر للسلام الاقليمي في المنطقة. وطبعاً لن يستقر العراق إذا كانت الرسائل الأميركية إلى اللاعبين الإقليميين متضاربة ومتناقضة مع نفسها وممهورة بختم البريد الإسرائيلي.

بالمختصر، مطلوب مقاربة اميركية «تغييرية» تأتي لمصلحة الشعوب أولا ... فلا تخذلها ولا تساوم قاهريها ولا تتواطأ معهم ولا تخذل المناضلين من أجل التحرر والحق المشروع. وكي تكون كذلك عليها أن تستوعب تماماً كل ما دمّر الثقة بمواقف واشنطن وسياساتها الإقليمية منذ 1948.