«هيئة البيعة» وصيغة أهل الحل والعقد

TT

عندما كتبت في هذه الصحيفة قبل عشرة أشهر (الخميس 29/12/2005م) مقالا بعنوان: هل تصبح صيغة أهل الحل والعقد النموذج الشورى الأمثل؟ وهو مقال يدعو الى إحياء الإجراء المعروف في التراث الإسلامي، ظننت أنني دخلت في منطقة «سيادية» تخص ولي الأمر الذي أصدر الانظمة الدستورية الاربعة (الحكم، الشورى، الوزراء، المناطق) قبل اربعة عشر عاما في المملكة العربية السعودية.

ومن المعروف ان مبدأ (منهج) أهل الحل والعقد، يقوم في أساسه على تشاور نخبة من حكماء الأمة وعقلائها (المختارين) في مسألة اصطفاء الخليفة القادم للمسلمين، وهو طرح لم يسبق لوسائل الإعلام السعودية ان تناولته عبر تاريخها.

اليوم، وبصدور نظام (قانون) هيئة البيعة، نجد ان ما كان حديث المجالس المغلقة، منذ تطور الحالة الصحية للملك الراحل، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، وتجربة انتقال السلطة في الكويت، يظهر للعموم في شكل تقنين علني، يجيب على الاستفسارات، ويلامس كل الاحتمالات، ويضع النقاط ـ بشفافية ووضوح ـ حول كيفية اختيار ولي العهد ـ ملك المستقبل ـ في إطار النظام السياسي القائم، ويخفف على الملك عبء الامانة، وثقل المسؤولية في الاختيار الصعب، او بتعبير أدق، يوسع من دائرة المشورة في هذا الأمر المصيري، ويؤسس مستقبلا لمفهوم الكفاءة في انتقاء ولي العهد، الذي ستؤول إليه ولاية أمر الأمة عاجلا أو آجلا.

ان نظام هيئة البيعة، الذي أصدره الملك عبد الله بن عبد العزيز، تقنين جريء ومهم لكيفية اختيار الملك القادم، بعد عقود من تجربة الانتقال الهادئ للسلطة كانت تحكمها التقاليد المتوارثة منذ ان أعلن عن أول ولي للعهد في المملكة (الامير سعود عام 1932 في عهد والده الراحل عبد العزيز).

كان النظام الاساسي للحكم (الدستور) الذي اصدره الملك فهد عام 1992، قد نظم الامور تنظيما عاما، يحدد في مادته (الخامسة) نطاق توارث الحكم في أبناء المؤسس وأحفاده، ومبايعة «الأصلح» منهم، وان اختياره او اعفاءه يتمان من قبل الملك وبأمر منه، كما تطرقت المادة الى مسؤوليات ولي العهد، وتوقيت توليه الملك، وهي أمور ـ وتقاليد ـ لم يسبق ان قننت من قبل، لكنها رسخت في النظام المذكور.

لكن النظام الجديد (هيئة البيعة) يقرر في مادته (الأولى) انشاء هيئة يسند اليها تقديم الرأي والمشورة للملك في هذا الشأن، وينظم آلية التصويت والاجتماعات وتقديم المرشحين.

كما يؤسس، بشكل غير مسبوق في انظمة الحكم العربية، لفكرة الاهلية الصحية للملك وولي عهده، في القدرة المؤقتة او الدائمة على ممارسة المهام، وينظم في الوقت نفسه لاحتمال خلو المنصب من رأسيه، وذلك بتفويض الهيئة تسيير دفة الحكم وملء الفراغ مدة معينة، وهو فوق هذا، يضع البدايات لتقرير شرط «الكفاية» و«الصلاحية» لتولي هذا المنصب الأهم في هرم السلطة والحكم في البلاد.

النظام الجديد المكون من (24) مادة، يتمم ويوضح ويطور خطوطا عريضة في «دستور» البلاد، وقد تكون الخطوة اللاحقة دمجهما معا.

النظام، دليل ثقة وقوة، وفيه يتنازل الحاكم عن أحد حقوقه السيادية المتعارف عليها، في كل الانظمة الملكية المماثلة، وفيه دفعة قوية في طريق توسيع المشاركة السياسية في تقرير أحد أهم القرارات المصيرية للامة.

والنظام مقاربة للنهج الاسلامي الموروث، ولعله تجسيد أولي ومرحلي للأخذ مستقبلا بصيغة «أهل الحل والعقد»، أول مجلس شورى إسلامي عرف في مطلع الخلافة الراشدة، مما قد يعني مستقبلا توسيع دائرة هذه الهيئة الجديدة لتشمل شرائح من المؤهلين في التخصصات الشرعية والدستورية.

* إعلامي سعودي، عضو سابق في مجلس الشورى