صاحبة الرداء الأسود!

TT

كان الروائي «ديكنز» يهيم على وجهه ليلا في شوارع لندن، قاطعا عشرات الأميال، ولا يتردد في تسلق بيوت أصدقائه ليدخلها من النوافذ، وهو الذي يقول عن نفسه: «إن ثلاثة أرباعي جنون والربع الباقي هذيان»، ولم يكن الأب الروحي للرواية السيكولوجية جيمس جويس بعيدا عن مثل هذه الهواجس، حتى أنه كان يلقب بالمحبرة المسكونة، وإن كنا نتفق مع القائل: «إن ما يهم في النهاية بالنسبة لقرائه ليست الأشباح التي تسكنه، بل الكتب التي حاول فيها أن يطرد هذه الأشباح»، ولم يكن الأديب والفيلسوف الفرنسي سارتر بعيدا عن هذه الهواجس، إذ ظل لفترة طويلة يتصور أن أخطبوط الماء يطارده ليخنقه، وكانت الشاعرة العربية «.....»، التي تفرق المعجبون بين جمال شِعرها وجمال شَعرها تكتب قصائدها ـ كما أرتني ذات يوم ـ تحت شجرة عارية أغصانها من الورق، في منطقة جرداء قاحلة، وقد أثر المكان على شعرها فتصحر من الجمال والمعاني الراقية.

تلك مقدمة رأيتها ضرورية قبل أن أحدثكم عن صديقي، الذي يشترك مع العباقرة في الهواجس، وإن كنت لا أجزم انه يشترك معهم في الإبداع، على الرغم من ادعائه ذلك، فصديقي المذكور كان الشاهد الوحيد على حفل نسائي ساهر، أقيم على سطوح الجيران، تمايلت خلاله الصبايا بقدودهن المائسة، فسلبته صاحبة الرداء الأسود لبه بشلال شعرها الفاحم، فراح يتغنى ببيت قديم من الشعر:

شعرك مثل ثوبك مثل حظي... سواد في سواد في سواد.

وبعد أن كلت قدماه من الوقوف لمتابعة ذلك الحفل الساحر، آثر أن يسجل ما شاهده إبداعا، فكتب نصا بعنوان «صاحبة الرداء الأسود»، ولم ينتظر حتى الصباح لكي يقرأه علي، فأرسل صوته منتشيا في جنح الليل عبر الهاتف يقرأ عليّ قصته أو «غصته»، وقد أنهى النص بزواج البطل من صاحبة الرداء الأسود.

وحينما التقيت به في اليوم التالي كان يضحك من أعماق قلبه وهو يحدثني عما انتهى إليه أمر ذلك الحفل، فقال لا فض فوه: «في الصباح الباكر حرصت أن أعود إلى النافذة كي أرى مخلفات ذلك الحفل، ليتبين لي أن الصبايا اللاتي كن يرقصن ويتمايلن في ذلك المساء لم يكن سوى ملابس الجيران المعلقة على حبل الغسيل، وأن صاحبة الرداء الأسود لم تكن سوى (شال) العم مرزوق الذي يعتم به في الأفراح والليالي الملاح».. وغرقت وإياه في ضحك صاخب ونحن في الطريق إلى متجر بيع النظارات ليغير زجاج نظارته السحرية المسكونة بالجنون وبالصبايا وأحلام المراهقين.