من يدفع فاتورة الانتخابات؟

TT

ما يصدر عن واشنطن هذه الأيام حول الشرق الأوسط وأفغانستان لا علاقة له بما يجري في الشرق الأوسط وأفغانستان، رغم فداحة ما يجري، ولا بحياة الناس في هذه المناطق ومستقبل شعوبها، بل هو نتيجة تفكير وتخطيط مجموعة عمل منكبّة أمام أجهزة كومبيوترها في واشنطن تصيغ الأفكار وتصمم المصطلحات الناجعة للمسؤولين الجمهوريين في تنافسهم المحموم مع حملة انتخابية مقابلة يقودها رئيس سابق لصالح الديمقراطيين. ومن خلال المتابعة الحثيثة يمكن للمهتم أن يستنتج أن إحدى أهم الأفكار التي توصلت إليها مجموعات العمل هذه هي إلقاء تبعة ومسؤولية كل الدمار الذي حل بالعراق والشعب العراقي على الحكومة العراقية «المنتخبة» ومطالبتها «بإجراءات شجاعة» والتلويح بأن «لصبر أميركا حدوداً»، ذلك لأن دور الحكومة الأميركية في العراق يقتصر على مساعدة الحكومة «المنتخبة» في العراق على «هزيمة الأعداء المشتركين وإحلال السلام والاستقرار في العراق، وجعل بلادنا أكثر أمناً» وفق ما قاله الرئيس بوش. والسؤال هو من هم «الأعداء المشتركون»، وأيّ بلاد يطمح الرئيس بوش أن تكون أكثر أمنا حين يقول «بلادنا» بصيغة قد تعني «الولايات المتحدة» أو «العراق»، أم أن له ما يشاء من البلدان متى ما شاء وكيفما شاء. فالرئيس بوش يتصرّف حتماً وكأن العراق بلده حيث تتحرك قواه حيثما يريد مع «التنسيق» أو «بدون التنسيق» مع الحكومة العراقية، ولكنه يرمي مسؤولية الوضع إلى أهلها متى يريد أيضاً بعد نزوح ملايين العراقيين وقتل مئات الآلاف منهم، وبعد أن أوصل الاحتلال الأميركي للعراق هذا البلد إلى حافة الحرب الأهلية والتقسيم منذ أن اتخذت الإدارة الأميركية القرار «غير البريء»، «وربما غير الصائب»، بحل الجيش العراقي والشرطة العراقية وتعطيل كل المؤسسات المدنية والعسكرية، وتفجير الكنائس والجوامع وإلهاب المشاعر الطائفية والعرقية بين أبناء البلد الواحد، وإلقاء بلد يشكل مهدا وفخرا للحضارة البشرية في غياهب الفوضى، ومن ثم الاستدارة بعد كل ذلك وتحميل المسؤولية «للديمقراطية الفتية» و«الحكومة المنتخبة» من أجل إيهام الشعب الأميركي بأن الجمهوريين لا يتحملون مسؤولية ما يجري كي يفوزوا بانتخابات مجلس النواب والشيوخ القادمة وكل ما عدا ذلك من تعذيب وقتل وتهجير يهون أمره على الرئيس بوش وفريق حكمه.

ومن أجل هذا الهدف الانتخابي السامي الذي يمثل عُصارة الحكم الديمقراطي، عقد السفير الأميركي في العراق، زلماي خليلزاد، والجنرال كيسي مؤتمرا صحافيا موجها للشعب الأميركي، طبعا تحدثا به عن تبلور استراتيجية أميركية «بإقناع الزعماء السياسيين والدينيين في بغداد بوقف العنف الطائفي بين الجماعات التي يتمتعون بنفوذ لديها أو يسيطرون عليها»، وترجمه هذا القول هو: أوَ رأيتم أيها الأميركيون من هم المسؤولون عن العنف الطائفي ومن يغذي هذا العنف، إنهم هؤلاء الزعماء أنفسهم سواء من يُحاكم منهم اليوم على شاشات التلفاز، أو من يتمتع بنفوذ خفي ويُغذي العنف الطائفي، وهو القادر على السيطرة عليه، ولا علاقة إذا للحضارة والديمقراطية الأميركية بكل ما يجري، بل هؤلاء هم العرب، وهذا هو تاريخهم وهذه هي طريقة الحكم وأسلوب إدارة البلاد لديهم. ولكن الخطأ الذي ترتكبه مجموعات العمل الانتخابي هذه في طرح الأفكار والمصطلحات على الرئيس بوش هو أنها لم توضح له بشكل لا يقبل الجدل متى يتحدث عن العراق وكأنه مستقل وتديره «حكومة منتخبة» وهي المسؤولة عن كل ما يجري، ومتى يتحدث عن العراق النفط والمقدرات والثروات والتي لن يسمح الرئيس بوش لأحد بأن يكون مسؤولا عنها سواه، ومن هنا يأتي الخلط في حديثه بين واشنطن والعراق حتى لتحسبها أحيانا بلدا واحدا، حيث قال الرئيس بوش مثلا في معرض حديثه عن إيران: «إن الإيرانيين يعرفون موقف واشنطن في شأن العراق ويعرفونه بوضوح.. والأهم من ذلك أنهم يعرفون موقف العراق من إيران»، أما عن سوريا فقد قال بوش «أما بالنسبة إلى سوريا فإن رسالتنا ثابتة: لا تقوضوا حكومة السنيورة، وساعدونا، وساعدوا إسرائيل في استعادة الجندي الذي أسرته حماس، ولا تسمحوا لحماس ولحزب الله بالتآمر وشن هجمات على الديمقراطيات في الشرق الأوسط، وساعدوا في الداخل العراقي». أما عن الديمقراطية الفلسطينية التي أسرتها إسرائيل وزجت بالمنتخبين من قبل شعبهم في سجون الاحتلال، فهذا ما لم يأتِ ولن يأتِ على ذكره الرئيس بوش، كما أنه لن يأتِ على ذكر أسر الشعب الفلسطيني برمته في سجون خانقة على أرض فلسطين، وسرقة أمواله ومياهه ومستقبله وقتل أطفاله ورجاله ونسائه يومياً. وهكذا فقد لخص الرئيس بوش ما يجري في أفغانستان والشرق الأوسط بمعزل عن مئات الأفغانيين الذين يقتلون «خطأ» من النساء والأطفال، وبمعزل عن حرية فلسطين وعن مستقبل الأراضي العربية المحتلة، وبمعزل عن الدمار الذي لحق بالعراق ولبنان، وعن معاناة لا تُطاق لملايين العرب في العراق وفلسطين ولبنان والسودان، بإغفال مقصود أم غير مقصود للمسائل الجوهرية المرشحة فعلا لتحقيق السلام والأمن في العالم وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال وإحلال العدل المرتبط بالكرامة والمصالح الحقيقية للشعوب. لقد أصبحت أزمة الشرق الأوسط اليوم متمثلة بأزمة الإفراج عن «جلعاد شاليش»، أما أزمة مئات أرواح العرب التي تزهق كل يوم في العراق وفلسطين فلا تُشكل مسألة تثير الاهتمام للناخبين الأميركيين، ولذلك ليس من المجدي التوقف عندها.

لا شك أن استخفاف الرئيس بوش ومجموعات العمل المنكبة على محاولة الفوز بالانتخابات على حساب دماء وقضايا العرب يثير حنق العرب، كما أنه يكلف الشعب الأميركي ثمنا باهظا من سمعة ومصداقية الولايات المتحدة لدى من يقدرون معنى السمعة والمصداقية ويعرفون قيمتهما بعيدا عن التهويل الإعلامي الذي يستهين بذكاء وعقل وفكر الإنسان، والذي ينطلق من مرتسم «تفوق النموذج الأميركي وتوق العالم إلى تقليده»، هذا المرتسم الذي لم يعد موجودا على أرض الواقع. إذ لدى شعوبنا اليوم خوف حقيقي مشروع من نموذج «الديمقراطيات الفتية» في العراق وأفغانستان وفلسطين، ولبنان، لأنه نموذج الخراب والفوضى والدمار والاستباحة المهينة للهوية التاريخية والحضارية والدينية والثقافية لأي شعب دون وازع ودون معايير ودون أي احترام لشرعية دولية أو أخلاق سماوية.

وبغض النظر عن الفوز أو الخسارة التي تنتظر الجمهوريين في انتخابات نوفمبر، فإن فاتورة الانتخابات التي تحملها واشنطن لشعوب منطقتنا تزيد شعوب منطقتنا قناعة أن الحلول الحقيقية لصانعي الغد تكمن في التشبث بالهوية والثقافة والروحانية والكرامة والعدل بعيداً عن الظلم والازدواجية والاستهانة التي ترهن منطقتنا لجدول أعمال العم سام الانتخابي أو الإسرائيلي أو النفطي. إن الرئيس بوش لا يهزم الإرهابيين في العراق كما يحلم اليوم ولكنه يهزم النموذج الأميركي المنبثق من دستور الولايات المتحدة والذي يركز على تحرير الإنسان من الخوف والظلم، ولن يتمكن الرئيس بوش ولا حكومته من التأثير جدياً بمجريات الأحداث في منطقتنا لأن الشعوب تعي اليوم حقيقة ما يجري، وتنصرف لصنع مستقبلها الحقيقي الذي ترتأيه، رغم تخويف الرئيس بوش للشعب الأميركي من «الإرهابيين» الذين «قد يسيطرون على البلاد ومواردها النفطية لقلب الحكومات المعتدلة في المنطقة وشن الهجمات على أميركا»، وإقامة «امبراطورية إسلامية متطرفة تمتد من إسبانيا إلى إندونيسيا». إن أبناء المنطقة يدركون تماماً أن «الإرهابيين» كانوا المستفيد الأكبر من حرب بوش على العراق، وأن الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت يوماً من إسبانيا إلى إندونيسيا أنتجت علما وحضارة وقيما تستحي أمامها كل الأفكار والمعايير المزدوجة والاستهانة بأرواح وثروات وأمن وكرامة البشر التي أنتجتها سياسات الرئيس بوش في منطقتنا في السنوات الأخيرة، كفاتورة باهظة للانتخابات التي ترتكز على رضا الممولين من اللوبي المعروف وجذب أموالهم، والتحرك فقط ضمن الإطار الذي يرسمونه مهما كانت معاييرهم السياسية والأخلاقية والإنسانية.

لقد أثلج صدري قول السيناتور الجمهوري جون هوشتيلتر (من إنديانا) الذي صوت ضد قرار الحرب على العراق في عام 2002 للرئيس بوش: «شكراً لخدماتك، إلزم واشنطن ونحن سنتكفل بحملاتنا» ونحن أبناء وبنات العرب المنكوبين بالنتائج الكارثية لسياسات الرئيس بوش على أهلنا في العراق وفلسطين ولبنان والسودان نقول له: «إلزم الولايات المتحدة ونحن أبناء وبنات هذه المنطقة الذين نكتنز في قلوبنا وعقولنا كل القيم الحضارية السمحة لعشرات الآلاف من سنين التعايش والمحبة والرحمة سنتكفل بأمن وسلامة وازدهار وكرامة أوطاننا بعيدا عن مشاهد الذل التي أتيت بها لشبابنا وأهلينا». ويكفينا فخرا أن الإمبراطورية الإسلامية عاملت الأسرى والنساء والأطفال والأديان والأقليات معاملة تليق بإنسانية الإنسان وكرامته، بغض النظر عن لونه أو دينه أو عرقه، فهل يستطيع الرئيس بوش أن ينظر في أعين الأمهات في فلسطين والعراق ولبنان ويقول الشيء ذاته عن «حضارته الديمقراطية»، أم أن هذا التفكير ترف لا وقت للجان العمل الانتخابية للخوض في تفاصيله اليوم. لقد ألحقت الانتخابات الأميركية خسائر فادحة بمصائر وأمن شعوبنا ولكن على المدى البعيد فإن خسارة الشعب الأميركي ليست أقل فداحة!