نظام البيعة في السعودية.. الزخم الإصلاحي

TT

يمكن إجمالا أن نلخص مأزق التحول السياسي في العالم العربي في تحديين أساسيين هما: من جهة المصاعب المتعلقة بالنظام الوراثي للحكم (في الأنظمة الملكية) والمصاعب ذات الصلة بنظام التناوب السلمي على السلطة (في الأنظمة الجمهورية).

وعلى الرغم من التباين الشكلي والمؤسسي والدستوري بين النظامين، إلا أن بعض المستجدات والتحولات الداخلية، التي برزت في العقود الأخيرة قربت بينهما بصفة جوهرية. وأبرز هذه التحولات، ظاهرتان محوريتان:

* اللجوء للانقلابات لحسم الصراع على الحكم، أو إزاحة الحاكم نفسه من داخل الأسرة المالكة ذاتها، التي يقوم فيها الانتقال الى السلطة على آلية التوريث وتولية العهد.

والواضح أن هذا التطور الذي عرفته بعض الأنظمة الملكية، ناتج عن سببين أساسيين: يتصل أولهما بالعامل التاريخي التقليدي (قانون تصدع السلالات). ويتصل ثانيهما بدور المؤسسة العسكرية المتنامي داخل تركيبة الإمارات الصغيرة، الذي يُفسر بالتحديات الأمنية، التي ولدتها ظاهرة الهجرة الخارجية وما لها من خطير الانعكاس على الأوضاع الداخلية والاستراتيجية لهذه البلدان.

* بروز الجمهوريات الوراثية، التي أصبحت حقيقة قائمة في بعض البلدان، في حين بدت بعض مؤشراتها العينية في بلدان أخرى. وترجع هذه الظاهرة إلى التحديات العصية، التي يطرحها مأزق التناوب السلمي على السلطة، الناتج عن التدبير الأحادي والاستثنائي للحكم، الذي يُغلق منافذ التحول ولا يترك مجالا للتناوب السلمي خارج آلية الانقلاب القسري.

فالحل الوراثي من هذا المنظور هو الحيلة التي ابتدعتها الأنظمة الأحادية لتأمين استمرارها ضمن المنظومة الأسرية الضيقة، التي اختزل فيها النظام السياسي نفسه.

في هذا السياق، يشكل نظام البيعة، الذي أصدره الملك عبد الله بن عبد العزيز في نهاية شهر رمضان المنصرم، تحولا نوعيا في المشهد السياسي العربي، باعتباره قدم إطارا مهما غير مسبوق لحل الإشكالات التي يطرحها انتقال السلطة في الأنظمة الملكية الوراثية.

فمن المعروف أن هذه الأنظمة تتفق على حصر مسؤولية اختيار ولي العهد في الحاكم المتقلد للأمر، في حين تختلف في تحديد معايير هذا الاختيار، فيذهب بعضها في حصره في أبناء الملك أو الأمير، ويذهب البعض الآخر إلى توسيعه لكامل أفراد وفروع الأسرة الحاكمة.

وإذا كانت الآلية الأولى تحسم عمليا بعض مصاعب انتقال السلطة، إلا أنها تخلق مصاعب أخرى ناتجة عن الإقصاء القانوني التنظيمي المسبق لبعض فروع الأسرة الحاكمة، في الوقت الذي لا تتوفر المعايير المطلوبة في ذرية الحاكم المباشرة.

أما الآلية الثانية، فتقتضي التقنين والتنظيم والضبط الإجرائي، وإلا تحولت إلى عامل صدام وفتنة، نتيجة لتنامي مراكز القوى الفرعية داخل الأسرة الحاكمة. فالميزة الأساسية في نظام البيعة، الذي استحدث مؤخرا في المملكة العربية السعودية، هي الحيلولة دون الخطرين معا:

خطر حصر ولاية العهد في نسل الحاكم. وخطر عدم تنظيم العلاقات والموازين داخل الأسرة الحاكمة.

ولم يكن ليتم تفادي هذين المنزلقين، إلا بشرط جوهري شديد الأهمية هو تنازل الملك الطوعي عن حقه في اختيار ولي عهده، مما أصبح النموذج السعودي يختص به من بين كل الأنظمة الملكية العربية.

ولا بد من الإشارة إلى أن أهمية الإصلاحات السعودية المذكورة، ترجع في ما وراء الخصوصيات المحلية إلى المكانة المحورية لهذا البلد، ذي الثقل الروحي والاقتصادي والإقليمي داخل الدائرة العربية الإسلامية الواسعة، وداخل المنطقة الخليجية بصفة خاصة.

فنظام البيعة الجديد، هو المحطة الثالثة من مسار إصلاحي، بدأ أولا بتحديث البنيات الإدارية والمؤسسية للدولة في الستينات والسبعينات، وتواصل ثانيا بإصدار النظام الأساسي للحكم، ونظام المناطق، وإنشاء مجلس للشورى في بداية التسعينات، وقد تواصل راهنا بالقوانين الجديدة المنظمة لانتقال الحكم.

ومن الجلي أن هذه الإصلاحات المدروسة بدقة وحكمة تندرج في إطار الحوار الفكري والسياسي المهم، الذي تعرفه المملكة العربية السعودية حاليا، في سياق تشاوري وضعت له أشكاله وضوابطه المؤسسية والتنظيمية (دورات الحوار الوطني، التي أشرف عليها مركز الحوار التابع مباشرة للملك).

فالإشكالات التي تطرحها النخبة السعودية، كغيرها من النخب العربية في هذا المنعرج الحاسم من تاريخ البلاد والمنطقة، تتمحور حول إشكالية رئيسية هي توسيع وتقنين المشاركة في صنع القرار وإدارته، ضمن نسيج اجتماعي متماسك ووضع سياسي مستقر.

ويحسب للقيادة السعودية أنها تعاملت بجدية وحس استشرافي ثاقب مع هذه المعادلة، وانتبهت إلى مقتضيات التحول والتجدد التي تتطلبها المرحلة.