بعد الخروج من التاريخ: الجغرافيا صارت مهددة في العالم العربي

TT

ثمة سحابات داكنة تتجمع الآن في الأفق العربي، منذرة بهبوب موجة من الأعاصير التي من شأنها ان تؤثر على توازنات المنطقة وجغرافيتها السياسية. وليست هذه مجرد تنبؤات قد تصدق او لا تصدق، لأن مختلف الشواهد تدل على ان الاعاصير قادمة لا ريب، ومن ثم فليس السؤال ما اذا كانت ستهب على البيت العربي ام لا، لكنه ينصب على التوقيت والمقاصد والآثار التي ستترتب على تلك الاعاصير. بكلام آخر، فان النذر ظاهرة لكل ذي عينين، ومن ينكرها لن يختلف كثيرا عمن يدفن رأسه فى الرمال، لكي لا يرى او يسمع.

هذه الايام، باتت الاخبار تحدثنا كل يوم عن اعداد لانقلاب عسكري في العراق، يطيح كل ما اقيم من أبنية ومؤسسات، ويقيم حكومة طوارئ تفرض سيطرتها على الجميع، بما يؤدي الى استعادة الامن، ووقف الانفلات الذي أثار ذعر الأميركيين، وزاد في خسائر جنودهم. الأمر الذي أصبح يهدد مستقبل الحزب الجمهوري، ويفقده تأييد الرأي العام فى الولايات المتحدة. وهو ما ينذر بنهاية بائسة لإدارة الرئيس بوش والفريق المحيط به.

وفي حين تتواتر الأنباء عن الانقلاب المنتظر الذي يعد له الأميركيون في بغداد، تتناثر اخبار أخرى حول الفيدرالية ومقترحات تقسيم العراق الى ثلاثة أقاليم، وحول الترتيبات التي تجري في منطقة كردستان لتعزيز موقفها في مواجهة السلطة المركزية. الامر الذي استصحب تلويحا بالانفصال، مع إشارات قوية إلى احتمال تفجير الصراع حول الاستئثار بنفط كركوك، واحتمال حدوث اقتتال شيعى ـ شيعى بين رعاة الفيدرالية ومعارضيها. وفي هذه الأجواء يستمر تساقط القتلى في التصفيات المتبادلة بين الشيعة والسنة، بأعداد غير مسبوقة.الأمر الذي يرسم صورة بائسة لمستقبل العراق، يبدو فيها ذلك البلد الكبير والعريق معرضا للتآكل والانفراط، بعدما دمرت مرافقه وبنيته الاساسية، ونهبت ثروته باسم «التحرير!».

لبنان أيضا معرض للانفجار، بعدما تعافى من تجربة الحرب الاهلية التي اغرقته في الدماء والأشلاء، قبل سنوات ليست بعيدة. ذلك ان تصريحات الزعماء السياسيين، وقادة الميليشيات تمارس الآن عملية «تسخين» تبعث على القلق. فهناك من يهدد بالاحتكام الى السلاح، اذا لم تشكل حكومة الوحدة الوطنية، وفي المقابل هناك من يلوح بالسلاح ويجهز المتاريس ويعد الملاجئ، تحسبا لذلك اليوم الذي تشكل فيه حكومة الوحدة الوطنية. وهؤلاء يلوحون بالشارع، ولا يستبعدون حلول اليوم الذي يندلع فيه الحريق بحيث تطغى زخات الرصاص ودوي الرشاشات والمتفجرات على لغة الحوار. وفي حين يتراشق اللبنانيون فيما بينهم، تعبث مختلف الاصابع في الظلام، ما بين قوى كبرى لها حساباتها وأجندتها، وأطماع إسرائيلية مازالت ترى في لبنان بابا لتصفية ملفات عدة، بعضها مع سورية وحزب الله والبعض الآخر مع ايران.

المشهد في الارض المحتلة يشكل وجها آخر للمتغير الذي طرأ على الجغرافيا السياسية للمنطقة. فقد استفردت اسرائيل بفلسطين، الضفة والقطاع، مستفيدة من اجواء الذهول والانكفاء العربيين، واصبحت غاراتها واجتياحاتها وتصفياتها للكوادر، ولكل العناصر النشطة في مقاومة الاحتلال، من قبيل التمارين الروتينية التي تمارس كل يوم، جنبا الى جنب مع تجريف الاراضي واستهداف البنى التحتية.

ولم تكن استباحة اسرائيل لمختلف الحرمات في فلسطين، هي أسوأ ما في الأمر، لأن الاعتياد على تمرير ما يجري في الارض المحتلة واعتباره امرا عاديا في العالم العربى، لا يثير احتجاجا ولا غضبا، لا يقل سوءا ولا بؤسا. ذلك الاعتياد الذي تجلى في استمرار صمت العواصم العربية، بات يغري الاسرائيليين ليس فقط بمواصلة قمع الفلسطينيين والتوسع في عمليات الاستيطان، وإنما ايضا بسعيهم لتصفية القضية وإغلاق ملفها بالكامل.

خرائط السودان تتعرض بدورها للضغط والشد والجذب، الذي يستهدف إضعاف دور السلطة المركزية، وتفكيك البلد وتمزيقه من خلال تشجيع التمرد فى شرقه وغربه وجنوبه، لكي ينفرط عقده، ويتم تدويل قضاياه، بما يستدعي دور قوى الهيمنة التي قد تتعدد أهدافها وتختلف، ولكنها تتفق في أمور عدة بينها الاستفراد بالسودان وتفتيت هويته والتمكن من ثرواته وإلغاء دوره، كبوابة عربية مطلة على افريقيا، واستخدامه كورقة ضغط على العالم العربي، بدلا من ان يكون عمقا استراتيجيا له.

في الصومال الذي هو عضو في الجامعة العربية، دولة انهارت فيها السلطة بفعل صراعات داخلية لم تكن القوى الدولية بعيدة عنها. ومن تحت أنقاضها خرجت سلطة المحاكم الاسلامية لتتحدى حكومة انتقالية مدعومة من الغرب، فسيطرت قوات الاخيرة على العاصمة مقديشو، ومضت تبسط سلطانها على انحاء البلاد حتى اصبحت على مشارف مقر الحكومة الانتقالية في بيداوة.

وفي هذه الاجواء، توترت العلاقة مع الجارة اثيوبيا التي حشدت قواتها على الحدود مع الصومال، وتتواتر الأنباء، مشيرة إلى أن القوات الإثيوبية تحركت لمساندة الحكومة الانتقالية التي اصبحت معزولة في معقلها، ومهددة بالسقوط بين لحظة واخرى.

القاسم المشترك بين هذه النماذج، يتمثل في ثلاثة أمور أولها: ان كلا منها يواجه أزمة مصير، في ضوئها يكون البلد أو لا يكون. ثانيها أن الأطراف الغربية موجودة في قلب الصراع. ثالثها ان كل حالة تواجه ازمتها وحدها ودون اي ظهر او غطاء عربي. وهذه النقطة الاخيرة هي التي تهمنا في السياق الذي نحن بصدده، لأن غياب ذلك الغطاء، بمثابة إشهار جديد لإفلاس النظام العربي وانهياره، على نحو يفتح الابواب واسعة لتآكل جغرافية العالم العربي، بعدما نالوا حظهم الذي يستحقونه من جراء عهود التخلف والاستبداد، فانطبقت عليهم السنن وخرجوا من التاريخ!

لست أبرئ عوامل داخلية، اسهمت بدرجة او اخرى في توتر الأوضاع وتوفير حالة القابلية للانفجار او التآكل في العراق او لبنان او فلسطين، وكذلك السودان والصومال.

صحيح ان الاحتلال هو الذي غذى وحمى النعرات الطائفية والعرقية في العراق، ولكن من الصحيح ايضا ان الاطراف العراقية التي تعاملت مع سلطة الاحتلال تبنت ذات الموقف وتفاعلت معه، بذات القدر، كما اننا لا نستطيع ان نبرئ الزعماء السياسيين في لبنان من مسؤولية توتر اجواء البلد والانطلاق من الحسابات الذاتية، الفئوية والطائفية، ضاربين عرض الحائط بالمصلحة الوطنية.

أما الصراع الحاصل في فلسطين بين السلطة والحكومة، فنحن نعلم جيدا ان ثمة طرفا ثالثا فيه، اسرائيليا ـ وأميركيا في المقام الاول، الا اننا نعي جيدا ايضا ان ادوات ذلك الصراع فلسطينية بامتياز. ذلك حاصل ايضا في السودان الذي لم تنجح حكومته في اقامة تحالف وطني يصد الغارات التي استهدفت البلد بأسره.

حتى كانت الحكومة يوما ما مستعدة للتلاقي والتنازل للحركة الانفصالية في الجنوب ورافضة للتواصل او الائتلاف مع القوى السياسية في الشمال، التي سنفترض انها اقرب اليها وواقفة في ذات مربعها. وهو ما أضعف موقف الحكومة وفتح شهية كثيرين للضغط عليها وابتزازها. اما الصومال فان قادته والذين يتناوبون عليه منذ زوال نظام الرئيس سياد بري قبل عشر سنوات، هم المسؤولون عن كارثته، حين تنازعوا واقتتلوا فذهبت ريحهم ودمرت دولتهم.

ليس الامر مقصورا على عالم عربي يتفكك ويتآكل، ولكن اصداء انهيار النظام العربي دفعت بعض الكيانات الصغيرة الى الاحتماء بالقوى الكبرى، حين لم تجد مظلة عربية حقيقية تحتمي بها. وبدا ذلك الاحتماء نوعا من الارتماء سوغ القبول برذائل سياسية كثيرة، تمثلت في فتح بعض البلاد العربية للقواعد العسكرية الاجنبية التي يعرف الجميع وظيفتها واستخداماتها التي هي في النهاية ضارة بالمصلحة الاستراتيجية للعرب ومهددة لأمنهم القومي. كما فتح الباب لتعدد أنشطة ومهام المرتزقة الاجانب فى اقطار عربية عدة.

هذا الانهيار كان له صداه السلبي الذي اثر على الوجود العربي في الخارج، فمن اجتراء على العرب ومقدساتهم، الى ازدراء شبابهم باخضاعهم للرقابة المستمرة فى أغلب الدول الغربية، وحرمانهم من دراسة علوم بذاتها في جامعاتها، الى ملاحقتهم وطردهم اذا تم اصطياد اية هفوة لهم، الى القاء مئات من شبابهم فى السجون الامريكية العلنية والسرية دون محاكمة، ودون توفير اية ضمانات تحترم انسانيتهم وتحمي أبرياءهم. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأننا قرأنا مؤخرا ان بلدا مثل النيجر قرر طرد 120 الفا من قبائل المحاميد العربية فى اراضيه، وان خفض الرقم في وقت لاحق.

ليست سهلة الاجابة عن السؤال: ما العمل؟

كما إنني لا اعرف ما هي الجهات او الدوائر صاحبة القرار التى مازالت مشغولة بمستقبل العالم العربى وأمنه القومى، بعدما انتعش فكر الانكفاء فى ظل الترويج المستمر لشعار «بلدنا أولا»، الذي يعني بالتعبير الدارج «كل واحد يدبر حاله». مع ذلك، فإذا جاز لي ان اغامر بالتفكير بصوت عال في الموضوع، فإنني أدعو اولا، الى تبرئة الشعوب العربية، وعدم تعميم الاتهام والإدانة عليها. لأن ازمة الامة العربية تكمن في النخب صاحبة القرار فيها، وما النظام العربي المتهالك الذي صرنا ننعيه في كل مناسبة الا حاصل جمع تلك النخب. لذلك فان «النظام» لن ينصلح الا اذا انصلح امر النخب المكونة له. ان شئت الدقة فقل ان إصلاح امر الدول التي تشكل اعمدة رئيسية للنظام العربي، هو الخطوة الاولى لإحياء ذلك النظام واسترداده عافيته وهيبته.

في هذا الصدد فإنني ازعم بأن عافية النظام العربي وثيقة الصلة بمصير دعوات الاصلاح السياسي التي تتردد الان بقوة في ارجاء العالم العربي. ولا اتردد في القول بأن نجاح الاصلاح السياسي (الحقيقي وليس المزيف) في اية دولة عربية سيكون اول ضوء اخضر، يسمح لنا بإمكانية التفاؤل، بحلول يوم تستطيع فيه الامة ان تصمد امام الاعاصير والمخططات التي تستهدفها. الأمر الذي يسمح لها ليس فقط بأن تحافظ على جغرافيتها، وإنما يسمح لها ايضا بأن تعود الى مجرى التاريخ.