«صحيفة مكة».. النحر العراقي سياسي لا طائفي!

TT

تضمنت «صحيفة مكة» التي وقعها فقهاء عراقيون من السُنَّة والشيعة مؤخراً، عشر وصايا: المسلم مَنْ شهد الشهادتين ظاهراً. حرمة دماء المسلمين. حرمة دور العبادة. القتل على الهوية فساد في الأرض. تجنب ما يذكي الطائفية. نصرة المظلوم. التعاون على البر. تذكير الحكومة بواجباتها. تأييد المصالحة الوطنية. المحافظة على استقلال العراق. وبطبيعة الحال، لا تمتلك منظمة مسالمة مثل منظمة المؤتمر الإسلامي على أكثر من التذكير الأخلاقي، والدعم المعنوي. وأهم ما في الصحيفة أنها وقعت عند جدار الكعبة، وهي أقدس بقعة باتفاق المسلمين، وما تبقى يُترك للضمائر.

حسناً فعل القائمون على مؤتمر مكة أنهم أبعدوا التباحث في المقالات الخلافية، فلو أثيرت لاحتاجت إلى سيف نادر شاه (1747 ميلادية) لمجرد طرحها، مثلما طرحت في مؤتمر النجف (1743) للتوافق بين المذهبين. وهذا ما أخاف الشيخ عبد الله السويدي (ت 1790) عندما انتدبه والي العراق العثماني أحمد باشا (ت 1747) ليقوم بمهمة التحكيم في المؤتمر بين رعايا الامبراطورية الأفشارية: شيعة إيران، وسُنَّة ما وراء النهر والأفغان. ولا نعلم بحقيقة مذهب نادر شاه سوى أنه من قادة الصفويين الأشداء قبل تنصيبه شاهنشاهاً أو ملك الملوك. وإذا كان سُنَّياً، فيمكن تمثله بالسلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان أحد قادة الفاطميين، ثم تمكن وحول مذهب مصر إلى السُنَّة. لم يحضر بين المؤتمرين، بالنجف آنذاك، عراقيون، لا من الشيعة ولا من السُنَّة، ما عدا الشيخ السويدي الذي حضر محكماً. كان ذلك قبل 263 عاماً، وما زال المذهبان يحاولان التعايش، في ظل استلابات سياسية لأهل المذهبين ضاق طين الأرض لكثرة ضحاياها، فكل الدماء سالت لأغراض شاه صفوي وسلطان عثماني، وإلا، لا جعفر الصادق ولا أبو حنيفة أمرا أتباعهما بتجريد السيوف.

كان مطلب نادر شاه من المؤتمر التخفيف من تصلب التشيع الصفوي، واحتواء مذهبي امبراطوريته بعد اعتراف عثماني بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً. ولما توج ملكاً أصدر أمراً مطولاً «يدعو فيه أهل إيران إلى استعمال السلاح وتعلم المعارف والمواخاة مع السُنَّيين» (تاريخ إيران، نشر 1898 بموافقة مظفر الدين شاه). وأُتفق أن يلغى ما ثبته إسماعيل الصفوي من سب الشيخين وزيادة الولاية في الأذان، وغيرها من موجبات المواخاة. واختتم المؤتمر بصلاة جامعة في مسجد الكوفة. لكن، صاحب تلك المبادرة، تنكيل بزعماء التشيع الصفوي فاضطربت مناطق من بلاد فارس عليه. وما هي إلا سنوات ويُقتل نادر شاه، على يد الأفغان، وتنتهي المحاولة. لتظهر أشهر ياقوتة من ياقوت تاجه في تاج فكتوريا ملكة بريطانيا (تاريخ إيران)، ولربما للأخيرة مأرب في قتله، لأن تقارباً قوياً كاد يحصل بين بلاد فارس وبلاد عثمان.

إلا أن الشيخ عبد الله السويدي، الذي أسعدته موافقة الجميع على نتائج المؤتمر، توقف عند الصغائر قياساً بعظمة المواخاة. فعندما دعي إلى الصلاة الجامعة، تتويجاً لاختتام المؤتمر، رفض أن يصلي بمسجد الكوفة، لأمور فقهية عزاها للإمامين أبي حنيفة والشافعي. إلا أنه حضر مع نادر شاه لسماع الخطبة، التي أعجبته، ماعدا تلفظ الخطيب اسم الخليفة عمر بن الخطاب بالكسر وليس بالفتح، على اعتبار صرف الاسم يضمر التقليل من الشأن، لذا اعتبرها الشيخ دسيسة. ثم اعترض على كيفية الصلاة، وأنها لم تؤد حسب تقاليد المذاهب السُنَّية، حتى طلب تأديب إمام الصلاة! وغيرها من الجزئيات (مؤتمر النجف، من مذكرات السويدي).

عموماً، يشي موقف الشيخ باستحالة بحث الأمور الأُصولية والفرعية في مؤتمر يُراد منه المواخاة، بقدر ما يُكتفى بالمشتركات. وهذا ما تنبه له القائمون على مؤتمر مكة، وتركوا مسائل الخلاف من أُصول وفروع.

أرى أن الشهادتين وما يتعلق بهما من مسائل إيمانية، ناهيك من تاريخ التعايش والشراكة بالوطن، كافية لإطفاء نار الطائفية بالعراق إن كان جوهرها طائفياً بالفعل! لكن، الخلاف ليس بين الطائفتين، والذين حضروا، من العراقيين، يعرفون جيداً أن النحر العراقي على الهوية يتم بفعل أحزاب وكيانات سياسية غلفت نوازعها السياسية بقشور الطائفية. ولا يخفى أن الهياج الطائفي بفعل سياسي أو طلب زعامة يمتد إلى قرون من الدس لتجنيد الأتباع تحت بيرق المذهب، وأولى الدسائس أتت من فقهاء الأحزاب، يوم تبنوا مصطلح الفرقة الناجية.

ولا نبتعد كثيراً، فالخلاف المغذى، من سياسي، شق طريقه إلى داخل المذهب الواحد أيضاً وبقوة، فمجرد أن تقدم أحد الشيوخ برأي مغاير بالفروع لا بالأُصول، وظهرت فرقة عُرفت بالشيخية، صدرت فتوى القتل بحق الشيخ أحمد الأحسائي (ت 1825)، حتى هرب إلى الحجاز، ومات هناك! وكم مجلس حكم عُقد لإعدام تلميذه كاظم الرشتي (ت 1843)! وهذا ما حصل بين فريقي الإخباريين والأصوليين الشيعيين. قتل في رواق الحضرة الكاظمية الميرزا محمد الأخباري (1816)، وسُلمت جثته للغوغاء للتمثيل بها، وكذلك فعل الشيخيون بخصومهم (آل الطالقاني، الشيخية، والخالصي (ت 1963)، علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات). وجرت داخل المذهب السُنَّي المعارك الحامية الوطيس بين الحنابلة والشافعية ببغداد. وحصل أن سحب القاضي أبو عبد الله محمد البلاساغوني (ت505هـ) إمامة جامع دمشق من الشافعية، وسلمها للحنفية، وقال: «لو كان إليَّ الأمر لأخذت الجزية من الشافعية» (سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان). إنه صراع الآراء والزعامات يقود الأتباع إلى المهالك.

ستستمر الأحزاب الدينية في تحشيد الأتباع باسم المذهب، وتحت شعارات حقوق الشيعة وحقوق السُنَّة، والطائفتان لا حقوق لهما، عند الرؤساء من أهل القصور، سوى القتل على الهوية، والحرمان من الكهرباء. فمن مصلحة هذا الكيان أو ذاك الحزب أن يبقى الشيعة بحاجة للحماية، ومن مصلحة أن يدفع بالسُنَّة إلى التمترس والعصبة. وإلا لو اتجه العراقيون، بسُنَّتهم وشيعتهم، إلى تأسيس أحزاب عراقية وطنية، لن تبقى غلبة لزعامات الطوائف وأمراء الحرب. وكتحصيل حاصل، لا يهم زعامات الطوائف أمرَ صحيفة، ولو شهد عليها جدار الكعبة، إذا ما تقاطعت مع مآربها؟ أقول: لو رجع الأولون إلى الحياة، الذين يحشد بأسمائهم بسطاء الناس، وأكدوا أن لا خلاف، وهم مصطلحون، لأنكر المتأخرون عليهم بفتاوى تكفير. لأن جوهر الحال هو: «قطع الورايد ولا قطع العوايد». وأوضح من ذلك: «قطع الأعناق، ولا قطع الأرزاق». أليست الطائفية أخصب الأرزاق في بلاد كثيرة الطوائف والأعراق!

[email protected]