اغلقوا النافذة

TT

في رواية روسية لم اعد اذكر ما هي ولا من هو مؤلفها، يدخل الطبيب لزيارة ام وابنتها فيجدهما تنتحبان بشدة فينهرهما قائلا: «ابكيا ما شئتما، ما دامت هذه الرياضة الروسية المفضلة. لكن اذا كان لا بد من ذلك فعلى الاقل اغلقا النافذة. ان الصقيع قاتل في الخارج».

الرياضة الوطنية المفضلة في لبنان هي المناقرة. ولا نستطيع ان نغلق النوافذ والابواب. ولذلك فنحن خجلون ممن يسمع ما يدور عندنا: وطن مهدد وسياسيون يتقاتلون على نسبة حصصهم في الحكومة! اتذكر «ارواح ميتة» لغوغول. وقبل ان يكتبها سأل الشاعر الكسندر بوشكين: «اين يمكنني العثور على الشخصيات المساخر لروايتي؟». فقال بوشكين «سافر في البلاد. سافر في الاصقاع. سوف تجد هذا النوع من الناس في المدن والدساكر». وبالفعل ادعى غوغول انه ارسل بطله في انحاء روسيا وراء الغرائب والمنافر. الا انه اقر فيما بعد بأنه عثر عليها دون عناء، في قلب موسكو، وفي بيته ايضاً.

لكننا في لبنان تجاوزنا «الارواح الميتة» وسخريات غوغول. وتجاوزنا «الرياضة الوطنية» في المناقرة. اننا نتشاجر الآن فوق سطح خيمة مخلعة من الخشب. واي صرخة او زعقة تهدد الخيمة بالسقوط. وبكل من عليها. ولن يبقى شيء سوى الزعيق وذكرياته ورماده.

هل تدرون لماذا يقف لبنان على حافة الهاوية؟ لأن اللبنانيين يتشاجرون. ولكن هل تدرون لماذا يتحاربون؟ ما هو عنوان النزاع الجديد؟ يجب ان تصدقوا: نحن نتقاتل لأننا نريد «حكومة وحدة وطنية». لن نقبل بأي شيء دون الوحدة ودون ان تكون وطنية ايضاً. ولذلك لا بد من الحرب.

يجب ان تتذكر «الارواح الميتة». ولو قليلاً. انه المشهد المتكرر في بلد مكون من ارض جميلة وطبقة سياسية لا تعدو علاقتها بالبلد كونه مسرحا مهددا بنشوب النار. لذلك تمثل الدور وعندما يبدأ الحريق تفر. ولكن ليس قبل ان تتقاسم مداخيل شباك التذاكر.

قال الشاعر الانكليزي جون هارينغتون:

الخيانة لا تزدهر ابداً، فما السبب؟ لأنه اذا ازدهرت لن يجرؤ احد على تسميتها خيانة!

غير ان الوصم بالخيانة عمل سهل وشائع في لبنان. ومتبادل طبعا. وبما انه ليست هناك قواعد متفق عليها للوطنية من الطبيعي الا تكون هناك مقاييس للخيانة. ولا للولاء. ولا للولاء المطاط او المتغير او المنقلب. ولكن هناك بالتأكيد جرأة لا مثيل لها في تغيير المواقف وفي الدفاع عنها بالحماس نفسه والإخلاص نفسه. فقط المكافأة تتغير.

ذكرت غير مرة انني اقلعت عن عادة مشاهدة الاخبار في بيروت. وعندما اقع على مشهد اخباري يكون بالصدفة او الخطأ غير المقصود. والنشرة لم تتغير: اليوم يتقاتلون وغدا يتناولون طعام الغداء. والمصور واحد. وكذلك المصير.